اخر الاخبار

تمر الصحافة في العراق بمرحلة حرجة وخطرة، في ظل تراجع كبير في الحريات الصحافية وتفاقم الانتهاكات ضد الصحفيين والمؤسسات الإعلامية، حيث تتصاعد عمليات القمع والتضييق التي تهدف إلى إسكات الأصوات المعارضة وإفراغ الفضاء العام من أي رأي يخالف قوى السلطة المتنفذة.

ومنذ عام 2003 والى يومنا هذا، شهدت الساحة الإعلامية في العراق تدهوراً متسارعاً بفعل استهداف الصحفيين بالاعتقال والتهديد والاغتيال، إلى جانب اساليب اخرى كتقييد حرية التعبير عبر تشريعات فضفاضة تُستخدم لمعاقبتهم بذرائع مختلفة.

لماذا الصمت المطبق؟

وفي ظل تزايد الانتهاكات ضد الصحفيين وتفاقم المخاطر التي تهدد حياتهم، أصدر مركز النخيل للحقوق والحريات الصحفية بياناً استغرب فيه الصمت الرسمي المريب إزاء حادثة مقتل الصحفي ليث محمد رضا، المنتسب في شبكة الإعلام العراقي، وهي مؤسسة حكومية.

وتساءل عن سبب "عدم صدور أي بيان رسمي من الحكومة أو نقابة الصحفيين العراقيين يدين هذه الجريمة النكراء أو يقدم التعازي والمواساة لعائلة الفقيد او يكشف نتائج التحقيق الأولية".

واكد إن هذا "الصمت المريب يثير العديد من التساؤلات حول مدى جدية الجهات المعنية في حماية الصحفيين وضمان سلامتهم، ويشكل إهمالاً واضحاً لحق الزميل الفقيد في العدالة والإنصاف".

ولفت مركز النخيل في بيانه الى ان هذا "التجاهل المتعمد يرسل رسالة سلبية إلى المجتمع الصحفي، مفادها أن حياتهم ليست ذات قيمة، وأن دماءهم مباحة".

دولة عاجزة وقضاء ضعيف

في هذا الصدد، أكد رئيس شبكة نيريج للصحافة الاستقصائية، سامان نوح، أن ضعف الحكومة وأجهزتها الأمنية وعدم قدرتها على فرض سيطرتها على السلاح المنفلت ومواجهة الفصائل والجماعات المسلحة، يقود حتما إلى استمرار الانتهاكات بحق الصحافيين وغيرهم.

ويجد نوح أن "الدولة عاجزة عن محاسبة الأفراد الذين يحصلون على السلاح خارج إطارها بسبب الامتيازات الممنوحة للمسؤولين وأبنائهم".

وقال في تصريح لـ"طريق الشعب"، أن “انتشار السلاح يقابله ضعف واضح في أداء الجهاز القضائي، الذي يفتقر إلى القدرة على التصدي للخروقات الأمنية، سواء كانت صادرة عن أفراد أو جماعات مسلحة. ويعود ذلك إلى خلل مستمر في سلطة الدولة التي تعجز عن متابعة هؤلاء ومحاسبتهم، مما يؤدي إلى تكرار حالات القتل المتعمد وغير المتعمد دون رادع"، طبقا لتعبيره.

وبيّن نوح، ان “تأجيل معالجة الملف الأمني الخطير منذ سنوات، وعدم اتخاذ إجراءات جادة لنزع السلاح وحصره بيد الدولة، جعل من مشاهد العنف والقتل ظاهرة متكررة”.

كما أشار  إلى أن استمرار هذه الانتهاكات مرتبط أيضاً "بضعف دور الاتحادات والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، التي من المفترض أن تتدخل وتتحرك حين تعجز الدولة عن فرض سلطتها، لكنها تحوّلت، إلى جزء من منظومة السلطة، وتغلغل في عملها الفساد، ما جعلها غير قادرة حتى على مواجهة هذه الفوضى".

ولفت ايضا إلى أن الصحافة الحزبية "أصبحت تهيمن على المشهد الإعلامي، وتُدار من قبل مسؤولين لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية، وأحياناً بهدف الابتزاز. وفي ظل هذا المناخ غير الصحي، تعاني المؤسسات الإعلامية الحكومية والممولة من المال العام من ضعف واضح”.

وأضاف أن "غالبية وسائل الإعلام لا تطبق المعايير الأخلاقية ولا تلتزم بأسس العمل الصحفي المهني"، مشيراً إلى أن تجاوز هذه الضوابط بات أمراً شائعاً ومستساغاً دون أي محاسبة أو رادع.

وعزا نوح هذا الخلل إلى “غياب دور نقابة الصحفيين العراقيين التي لا تقوم بمهمتها في ضبط الأداء الإعلامي، بالإضافة إلى الأداء الانتقائي لهيئة الإعلام والاتصالات التي تركز على ملفات معينة وتغض الطرف عن قضايا حساسة، حتى وإن كانت تنطوي على انتهاكات وتهدد السلم الأهلي والمجتمعي”.

وختم نوح تصريحه بالقول: “هذا الواقع يعكس خضوع هذه الأطراف لأجندات سياسية، ما يفقدها استقلاليتها ويبعدها عن تمثيل المهنية بشكل حقيقي ودقيق”.

الصحافة في أزمة خطرة

من جهته، قال الصحافي محمود النجار أن استمرار الانتهاكات ضد الصحافيين في العراق يعود إلى عدة عوامل مترابطة، أبرزها الخوف من القمع،حيث يتعرض الصحافيون منذ سنوات لضغوط شديدة، سواء من جهات حكومية تتحدث باسم القانون أو من ميليشيات وجماعات مسلحة تعمل ضمن التشكيلات العسكرية للنظام أو حتى من جهات غير حكومية تابعة لأطراف نافذة وتجار داخل العراق وخارجه.

واشار الى ان هذا الخوف المتعدد الجوانب "دفع العديد من الصحافيين إلى التراجع عن أداء دورهم الحقيقي، إذ تخلى كثير منهم عن الصحافة الاستقصائية وتحولوا إلى نشر الأخبار فقط، بينما اعتزل آخرون المهنة تماماً.

ويقدّر النجار أن نحو 70 إلى 80 في المائة من الصحافيين في العراق تراجع دورهم بشكل ملحوظ، لا سيما بعد أحداث تشرين 2019 لصالح تصاعد نفوذ الميليشيات والجماعات المسلحة.

غياب المساءلة وضعف الرقابة

واكد النجار أن "غياب المساءلة القانونية هو عامل أساس آخر في استمرار الانتهاكات، إذ يشعر الصحافيون بعدم وجود حماية قانونية حقيقية. المؤسسات الرقابية والقانونية التي يفترض أن تحمي الصحافيين وتلاحق المعتدين – مثل هيئة الإعلام والاتصالات أو نقابة الصحافيين أو حتى مجلس القضاء – تبدو ضعيفة وعاجزة عن القيام بدورها.

ولفت الى ان الصحافي عندما يتعرض للتهديد أو الاعتقال التعسفي، لا يجد جهة رسمية تدافع عنه بجدية، وهو ما يفاقم شعورهم بعدم الأمان.

ويرى المتحدث ان "التواطؤ بين السلطة والجماعات النافذة يمثل عاملاً ثالثاً مهماً. فهناك مصالح مشتركة تربط السلطة بميليشيات وأطراف متنفذة، كمهربي النفط والمخدرات، ما يؤدي إلى تغاضي المؤسسات الحكومية والقضائية عن الانتهاكات ضد الصحافيين الذين يكشفون ملفات حساسة. وللأسف، تصل هذه العلاقة أحياناً إلى حد تسويف القضايا أو تمرير قوانين تحد من حرية الصحافة بدلاً من تعزيزها".

ويشير النجار إلى أن "المجتمع العراقي نفسه أصبح أقل حساسية تجاه استهداف الصحافيين، نتيجة الأزمات السياسية والاقتصادية المتلاحقة وتصاعد خطاب الكراهية والتشكيك في الإعلام. هذا الانهيار الفكري جعل المجتمع غير مبالٍ بالانتهاكات ضد الصحافة، الامر الذي يفاقم أزمة حرية التعبير".

ضعف التضامن الإعلامي

واردف بالقول ان "ضعف التضامن بين المؤسسات الإعلامية يبرز كعامل خامس. فبدلاً من تشكيل جبهة موحدة للدفاع عن حرية الصحافة، نجد المؤسسات الإعلامية متنافسة ومسيّسة، ما يضعف جهود حماية الصحافيين".

وتابع انه برغم وجود مبادرات مثل “تحالف حرية الصحافة” و”جمعية الدفاع عن حرية الصحافة”، إلا أن هذه الجهود تبقى محدودة بسبب غياب الدعم المادي والغطاء القانوني، وتعرض القائمين عليها للتهديد والمضايقات".

ويرى النجار أن البيئة الامنة للعمل الصحافي الصحافيين تتطلب توافر عناصر رئيسية : "اولها الحماية قانونية الواضحة، كإصدار قوانين تضمن حرية الصحافة وتوفر الحماية من العنف والتعسف، وتكفل حق الوصول إلى المعلومات، ووجود قضاء مستقل وفعال يحاسب الجهات المتورطة في استهداف الصحافيين، سواء كانت حكومية أو تابعة لجماعات مسلحة، بعيداً عن التسييس والضغوط".

واضاف ان "الأمان الميداني والتقني عنصر مهم جداً، فلابد من تأمين معدات السلامة للصحافيين وحماية مصادر معلوماتهم وضمان بيئة رقمية آمنة وخالية من الرقابة التعسفية، اضافة للوعي المجتمعي بأهمية الصحافة، ودورها في الدفاع عن الحقوق الأساسية ومحاربة الفساد والانتهاكات".

واستطرد بالحديث عن "القوانين المقيدة والتشريعات الفضفاضة، التي صارت تُستخدم لمعاقبة الصحافيين تحت ذرائع مثل نشر أخبار كاذبة أو المساس بالأمن القومي، اضافة للرقابة على التمويل، واستهداف المؤسسات المستقلة عبر منع التمويل عنها أو الضغط عليها للعمل وفق أجندات معينة، علاوة على التحريض والتشويه، حيث تشن حملات إعلامية لتشويه صورة الصحافيين واتهامهم بالعمالة أو إثارة الفتن، وهو ما يمهد أحياناً لاغتيالهم".

عرض مقالات: