لا يزال الاقتصاد العراقي يعاني من اختلالات عميقة، حيث يعتمد بشكل كبير جدا على إيرادات النفط، في ظل غياب استراتيجيات واضحة لتنويع مصادر الدخل.
ومع تفاقم معدلات البطالة والفقر، لجأت الحكومات المتعاقبة، وحتى الحالية، إلى حلول آنية، مثل التعيينات الحكومية وبرامج الرعاية الاجتماعية، التي باتت تشكل عبئًا إضافيًا على الموازنة العامة دون أن تساهم في معالجة جذور المشكلة.
"خفضنا معدلات الفقر والبطالة"
واللافت ان وزارة التخطيط أعلنت اخيراً عن أن برامج الحماية والرعاية الاجتماعية لعبت دورًا رئيسيًا في انخفاض معدلات الفقر والبطالة في العراق.
وقال المتحدث باسم وزارة التخطيط عبد الزهرة الهنداوي، إن وزارته "أجرت مسحًا اقتصاديًا من خلال هيئة الإحصاء التابعة للوزارة، والذي استمر لمدة عام كامل، من آب 2023 وحتى أيلول 2024"
وأضاف الهنداوي أن "نتائج المسح أظهرت انخفاضًا في معدلات الفقر من 23 في المائة في عام 2021 إلى 17.6 في المائة عام 2024. كما انخفضت نسبة البطالة من 16.5 في المائة إلى 14 في المائة خلال نفس الفترة".
وبين أن "برامج الحماية والرعاية الاجتماعية لعبت دورًا رئيسيًا، حيث تم شمول المزيد من الأسر الفقيرة بالدعم المالي، إضافة إلى التمكين المالي للشباب من خلال القروض المُيسرة".
هل ادت غرضها؟
من جانبه، يرى استاذ الاقتصاد الدولي في جامعة بوخارست، د. نوار السعدي، ان هذه السياسات لم تؤد الغرض المنشود بشكل حقيقي، بل إنها في بعض الأحيان زادت من تعقيد المشكلة، بدلاً من حلها.
واضاف قائلاً لـ"طريق الشعب"، ان "برامج الحماية الاجتماعية، رغم أهميتها، لكنها لم تكن مصممة بحيث تحقق تحولًا اقتصاديًا حقيقيًا، بل اقتصر دورها على تقديم مساعدات مالية محدودة لا تغير من واقع الأسر الفقيرة إلا لفترات قصيرة".
وبيّن ان هذه البرامج "تعتمد على سياسات الدعم الحكومي المباشر، وهو ما قد يخفف من وطأة الفقر مؤقتًا، لكنه لا يسهم في خلق فرص عمل مستدامة أو في تحفيز النمو الاقتصادي".
وفي الحديث عن البطالة، قال السعدي أن "المشكلة الأساسية ليست في الدعم الحكومي، وجوده من عدمه ، بل في غياب استراتيجيات اقتصادية واضحة لتحفيز القطاع الخاص واستيعاب القوى العاملة. العراق يعتمد بشكل كبير على التشغيل في مؤسسات الدولة الذي أصبح عبئًا على الموازنة بدلًا من أن يكون محركًا للنمو".
ونوه الى ان "السياسات الحكومية لم تقدم حوافز حقيقية للشركات لتوظيف المزيد من العمالة، كما لم يتم تطوير برامج تدريب وتأهيل تتماشى مع احتياجات سوق العمل. وبالتالي، فإن معظم العاطلين عن العمل، خصوصًا الشباب، يجدون أنفسهم في حلقة مفرغة من الانتظار دون توفر فرص حقيقية".
واكد في سياق حديثه ان "تفشي الفساد الإداري والمالي في المؤسسات المسؤولة عن تنفيذ هذه البرامج جعلها تفقد الكثير من فعاليتها. فعوضًا عن أن تكون هذه المبادرات وسيلة لتحقيق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، أصبحت في بعض الحالات مجرد أدوات سياسية تستخدم لتقديم حلول شكلية دون تحقيق تغيير جوهري في معدلات الفقر والبطالة".
وعن تقييم هذه السياسيات، يرى السعدي انها "لم تكن منتجة بما يكفي، لأنها لم تؤسس لاقتصاد قوي قادر على خلق فرص العمل. المشكلة في العراق ليست في نقص الموارد المالية، بل في سوء توجيهها نحو برامج غير منتجة"، مشيراً الى ان "الحل الحقيقي يكمن في تبني سياسات اقتصادية أكثر فاعلية، تشمل تشجيع الاستثمار في القطاعات المنتجة، مثل الصناعة والزراعة، وإصلاح بيئة الأعمال لتشجيع القطاع الخاص، ورفع كفاءة الإنفاق الحكومي بحيث يتم توجيهه نحو مشاريع مستدامة بدلًا من برامج مؤقتة تستهلك الميزانية دون مردود اقتصادي طويل الأمد".
وخلص الى القول ان "السياسات المتبعة حتى الآن لم تكن كافية، وإن استمرار الاعتماد على الحلول التقليدية لن يؤدي إلا إلى زيادة الأعباء على الدولة دون تحقيق نتائج ملموسة على أرض الواقع. المطلوب هو رؤية اقتصادية جديدة تستند إلى إصلاحات هيكلية حقيقية، تركز على الإنتاج وليس على الاستهلاك، وعلى التوظيف المستدام وليس على المساعدات المؤقتة".
توجهات لحل الازمة ام للدعاية السياسية؟
على الصعيد نفسه، قال المحلل السياسي مناف الموسوي انه "على الرغم من وجود شريحة مستفيدة من التعيينات ورواتب الرعاية الاجتماعية، إلا أن هذه القضايا تُستثمر في الدعاية السياسية والانتخابية، في ظل غياب التخطيط الحقيقي، حيث تُوظَّف بوضوح لخدمة الشخصيات التي تدير الوزارة أو الحكومة، أو لمن يُراد استغلالها انتخابياً".
واوضح في حديثه لـ"طريق الشعب"، ان "الاساس هو ان تكون هناك استراتيجية واضحة، خصوصاً مع تصاعد الحديث عن التنمية والتنمية المستدامة. والسؤال الأهم هنا: كيف يمكن ضمان استدامة هذه التنمية؟ وهل يمكن استمرار هذه السياسات في ظل الحديث عن ازمة اقتصادية، والاعتماد على اقتصاد ريعي، مع احتمالية انخفاض أسعار النفط؟ كل هذه الإشكاليات تفرض ضرورة البحث عن حلول حقيقية لمعالجتها".
ونبه الى ان "المطلوب هو وضع استراتيجيات ناجعة، ومعالجات حقيقية، من خلال خلق فرص عمل عبر تنشيط القطاع الخاص وتفعيله ليكون شريكاً حقيقياً في التنمية، مع ضمان حماية حقوق الموظفين والعمال، وتقليل الاعتماد على التوظيف الحكومي".
وبين انه "في ظل غياب خطة استراتيجية حقيقية تُحقق التنمية وتخفض معدلات البطالة والفقر، لا يمكن القول بوجود حلول فعلية لهذه الأزمات. لا سيما في هذا التوقيت، حيث تتفاقم التحديات وتحتاج إلى معالجات جذرية، قبل الحديث عن خفض معدلات البطالة في ظل هذه الظروف".
ما المطلوب؟
وضمن سياق متصل قال الباحث في الشأن الاقتصادي عبد الرحمن الشيخلي ان "الدول الريعية التي تعتمد على موارد مثل النفط والذهب، يكون التوازن الاقتصادي قائماً على الاعتماد على ما لا يقل عن 50 في المائة من الإيرادات من هذه الموارد، بينما يتم تمويل الموازنة من النسبة المتبقية من خلال الصناعة والزراعة وقطاعات أخرى".
وذكر في حديث لـ"طريق الشعب"، أن "العراق، في ظل هشاشته السياسية والاجتماعية والأمنية، وغياب الخطط والاستراتيجيات الفعالة، اعتمد النفط كمصدر وحيد لتمويل الموازنة، دون السعي الجاد إلى تطوير موارد أخرى ترفد خزينة الدولة وتحقق الاستقرار المالي".
واضاف الشيخلي بالقول ان "الفساد لعب دوراً محورياً في تفاقم أزمتي البطالة والفقر، إذ أدى إلى تعطيل آلاف المشاريع الصناعية والزراعية، ما حال دون تحقيق أي تنمية حقيقية أو خلق فرص عمل جديدة".
وتابع حديثه بالتأكيد على ضرورة واهمية "توفر إرادة سياسية واقتصادية جادة لتنويع مصادر التمويل، عبر تنشيط الصناعة والزراعة، وتفعيل القطاع الخاص ليكون قادراً على استيعاب أعداد كبيرة من العاطلين عن العمل. أما برامج الحماية الاجتماعية، ورغم أهميتها في التخفيف من آثار الأزمة، لكن لا يمكن اعتبارها حلاً مستداماً لخفض معدلات الفقر والبطالة، إذ يبقى توفير فرص العمل الحقيقية أكثر جدوى من الاعتماد على الإعانات المالية".
واتم حديثه بالقول ان "معالجة مشكلة البطالة والفقر تتطلب تبني استراتيجية متكاملة، تبدأ بوضع خطط مدروسة تشمل حتى تطوير قطاع التعليم، بحيث يتم توجيه مخرجاته لتلبية احتياجات سوق العمل، بدلاً من الاستمرار في تخريج أعداد كبيرة من العاطلين. كما أن دعم القطاع الخاص يمثل الحجر الأساس في أي نهج اقتصادي ناجح، باعتباره المحرك الرئيس للنمو الاقتصادي في الدول التي تعتمد سياسات السوق المفتوح".