المحاصصة أم المواطنة؟
نشر موقع المركز الفرنسي لأبحاث العراق دراسة للكاتب جيغيوم شبيسا ذكر فيها بأن الدستور قد حدد الدولة العراقية بأنها دولة اتحادية واحدة، ذات حكومة جمهورية تمثيلية برلمانية ديمقراطية، مستعيراً المفردات الكلاسيكية للديمقراطيات الليبرالية، دون أي إشارة لمصطلح الأمة، بحيث صار سهلاً على بعض المعلقين الزعم بأن هذا العراق دولة بلا أمة. واستطرد الباحث بالقول إن البلاد شهدت تعبيراً عن هويتها الوطنية ضد الإستعمارين العثماني والبريطاني في بدايات القرن العشرين، مع محاولات فاشلة للملكيين للتعبير عن هذه الهوية، سبّبته أصولهم الاجنبية، فيما وأد إغتيال الجنرال قاسم في منتصف الستينيات، مسعى قوي مارسه بهذا الصدد.
نهوض جديد
وأكد المقال على انبثاق محاولات جديدة لرفع شأن الهوية الوطنية بعد الإحتلال الأمريكي للعراق 2003، كان آخرها في ثورة تشرين 2019، مشيراً إلى اتسام هذه المحاولات برفض السلطة القائمة والظروف الاجتماعية المزرية التي يعيشها الناس من جهة، وعدم تردد الحاكمين في ممارسة العنف لإحباط هذا الطموح المقلق بالنسبة لهم.
الفيدرالية العرجاء
ولاحظ الكاتب بأن الشكل الفيدرالي الذي حدده الدستور للدولة لم يتم تعميمه على جميع مناطق البلاد بل اقتصر على الجانب القومي، مع بعض المحاولات الفاشلة لإعطائه جانباً طائفياً، فيما تتعرض التجربة الفيدرالية الخاصة بإقليم كردستان للكثير من الضغوط والمشاكل التي تبدو وكأنها تستهدف إنهاءها. وتأتي تلك الضغوط من تعارض منطقين حيث ينظر البعض للفيدرالية بإعتبارها "شراً" لا بد منه بسبب التنوع العرقي والديني في البلاد، فيما لا يقتنع البعض الآخر بها ويراها غير مناسبة إلا في ظل ظروف سياسية وإقليمية معينة لا تنطبق على واقع العراق!
وأعرب الكاتب عن تصوراته بأن هذا الرأي قد يكون سبباً في عدم وجود رغبة لدى الحكومة لتوسيع الفيدرالية خارج كردستان، وعدم وجود حماس لدى المحافظات الأخرى لشكل الدولة الاتحادي، وكذلك في وجود خوف من المجهول والمستقبل على مصير البلاد والذي يطغى على البعض عندما يواجهون خيار الفيدرالية.
ديمقراطية مجزأة
وذكر الباحث بأن العراق يبرز كواحد من البلدان القليلة في المنطقة التي تدعي تبني نظام ديمقراطي، ولكنه يواجه تحدي الدولة الضعيفة، التي لا تزال ديناميكياتها تتشكل إلى حد كبير من خلال الاعتبارات العرقية والدينية. ومثل هذه الدولة غير قادرة على معالجة الحاجة الملحة إلى تحدي النظام السياسي العرقي الطائفي الذي يعوّقها، ودعم التغييرات المجتمعية الضرورية وإدارة الفيدرالية وتوسيعها.
واشترط المقال لحدوث التغيير الذي يفضي لدولة قوية، قيام انتخابات ديمقراطية واحدة خالية من المحاصصة الطائفية، التي سممت الحياة السياسية منذ عام 2003، دون الحاجة حتى لمراجعة دستورية، وهو أمر هام لا تبدو النخب المتنفذة راغبة فيه، لأنه ببساطة قد يؤدي إلى التخلي عن مزاياها، ولهذا سيبقى التقاعس والاستغلال المنهجي للدولة سبباً في تحولها إلى ديمقراطية غير كاملة، تفضل الميليشيات والتدخلات الأجنبية على الدستور والنظام، وهو ما إنعكس في تغيير دوري لقانون الانتخابات والمشرفين عليها في كل دورة انتخابية، دون أن يصل هذا "الإصلاح" التشريعي لحل الأزمة.
المواطنة أولاً
وأكد الكاتب على أن التمسك بالتعددية الثقافية والوطنية العراقية، وتخفيف الصراعات، والتغلب على الخوف من التغيير، هي مسألة إرادة وتعليم، تبدأ من عملية تعلم تدريجية للحرية الفردية، والقدرة على إسقاط الذات على المستقبل، واتخاذ خيارات شخصية لا يمليها زعيم عشيرة فقط، فضلاً عن تقدير الحوار والتعاطي مع وجهات نظر الجميع.
وبيّن المقال بأن لكل مجتمع حداثته الخاصة، ولا يحق لأحد أن يدعي امتلاكه حصرياً لها، مهما كان رأيه، ولا يمكن لأحد أن يدعي امتلاك نموذج متفوق. ولهذا ففي حالة العراق، لا يتعلق الأمر بإنكار أو التشكيك في الانتماءات الدينية أو القبلية أو العائلية التي لا يزال العديد من العراقيين مرتبطين بها وسوف يظلون مرتبطين بها، بل يتعلق الأمر بتجاوزها من خلال تعلم العيش والتفكير والعمل معاً عندما يكون ذلك ضرورياً أو مفيداً للصالح العام.