تواجه الحكومة العراقية تحديات كبيرة في ظل زيادة الإنفاق، وتحول العجز التخميني إلى فعلي في موازنة العام الماضي؛ إذ تشير الأرقام إلى أن الفارق بين الإيرادات والمصروفات تجاوز 19 تريليون دينار.
وبرغم الدعوات والنصائح المتكررة لإعداد موازنة مبنية على أسس مالية واقعية بعيدًا عن المبالغات، إلا أن القوى السياسية الحاكمة مضت كعادتها في إقرار موازنة ثلاثية بمبالغ خيالية تتجاوز الإيرادات المالية المتاحة للعراق. وقد أدى ذلك إلى تفاقم الإنفاق المالي، ما رفع سقف الدين الداخلي إلى 80 تريليون دينار.
وضع صعب
وفي هذا السياق، قال مصدر مطلع لـ"طريق الشعب"، إنّ "الوضع المالي في البلاد شديد الصعوبة؛ فالإيرادات النفطية بالكاد تغطي الرواتب، إذ تصل شهريا في أفضل الأحوال إلى 9 تريليونات دينار، وأحيانًا تنخفض إلى 8 تريليونات، وهو المبلغ نفسه الذي تحتاجه الحكومة لتمويل الرواتب".
وأضاف المصدر، أنّ "أي انخفاض في أسعار النفط سيدفع الحكومة إلى خيارين: إما اللجوء إلى الاقتراض الداخلي، وهو ما يتطلب منها سداد 28 تريليون دينار، أو ترحيل هذا العجز إلى الحكومة المقبلة. وهذا سيضع الأخيرة في مأزق كبير نتيجة الإنفاق الحكومي غير المدروس".
قرار من المالية
وقررت وزارة المالية إيقاف نقل خدمات الموظفين بين الوزارات والجهات غير المرتبطة بالوزارات، والترفيعات وعلاوات الموظفين، بسبب عدم معرفة سقف الإنفاق المالي للسنة الحالية.
وأظهرت وثيقة رسمية صادرة عن وزارة المالية قرارًا يقضي بإيقاف نقل خدمات الموظفين بين الوزارات والجهات غير المرتبطة بالوزارات، سواء كان النقل مركزيًا أو محليًا. ويشمل القرار أيضًا نقل الخدمات بين الشركات العامة والهيئات والمديريات الممولة ذاتيًا أو تمويلًا مركزيًا.
وأشارت الوثيقة التي حملت توقيع وزير المالية طيف سامي إلى أن هذا القرار يأتي استنادًا إلى أحكام المادة (12- أولاً) من قانون الإدارة المالية الاتحادية رقم (6) لسنة 2019 المعدل.
كما جاء القرار بسبب عدم وضوح سقف الإنفاق المالي لعام 2025، حيث سيسري تنفيذه اعتبارًا من 12 كانون الثاني 2025.
وتضمن القرار أيضا منع دعم الشركات العامة بالرواتب والنفقات التشغيلية من قبل الوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة والمحافظات، إلا في حال إدراجها ضمن مشروع قانون الموازنة الاتحادية لعام 2025.
خطأ الموازنة الثلاثية
من جانبه، كشف عضو اللجنة المالية النيابية جمال كوجر عن المصروفات الفعلية للعام الماضي وقيمة العجز الحقيقي فيها، مشيراً إلى خطأ إقرار موازنة ثلاثية.
وأشار كوجر إلى أن "إقرار الموازنة الثلاثية كان خطأً، حيث إن المبالغ التي لم تُصرف في نهاية السنة تُضاف إلى موارد الدولة للسنة التالية".
وأوضح أن "مبالغ كبيرة لم تُصرف في عام 2023، ولكنها استمرت في عام 2024، مما أدى إلى صرف مبالغ من موارد 2024 على موازنة 2023 بما لا يقل عن 9 تريليونات دينار، وقد زادت إلى 11 تريليون دينار فيما بعد".
وأضاف، أن "المصروفات في عام 2024 بلغت 156 تريليون دينار، في حين أن الموارد كانت 137 تريليون دينار، مما يعني وجود عجز حقيقي يبلغ حوالي 19 إلى 20 تريليون دينار".
وحول تعديل سلّم الرواتب، أكد كوجر أن "الحكومة لم تقدم أي تعديل لسلم الرواتب إلى البرلمان، وأن هذا الموضوع غير مطروح حالياً"، مبينا أنه "لا يمكن زيادة 10 آلاف دينار على رواتب الموظفين"، مشيراً إلى أن "الوضع الحالي للحكومة لا يسمح بتعديل سلم الرواتب".
وفي ما يتعلق برواتب الموظفين، أكد كوجر أنها "مؤمنة بنسبة 100% ولا يوجد أي خطر عليها"، مبيناً أن "الحكومة لديها سبل عديدة للاقتراض واحتياطي في البنك المركزي يؤمن الرواتب بشكل كامل".
حيز أكبر من القدرة
وفي هذا الشأن، أوضح الخبير الاقتصادي باسم جميل أنطوان، أن إقرار الموازنة الثلاثية سيكون منطقياً لو كان الوضع المالي والاقتصادي في البلد مستقراً، مشيراً إلى أن الوضع العام الاقتصادي والمالي قلق وغير مستقر.
وأضاف، أن سبب هذا القلق يعود إلى أسعار النفط وعدم استقرار الإيرادات الأخرى غير النفطية، حيث لا يزال الاعتماد على الريع النفطي مستمراً منذ أكثر من عشرين سنة.
وأشار أنطوان في حديثه مع "طريق الشعب" إلى أن الحكومة دخلت في صرفيات أكبر من طاقتها والواردات، ما أدى إلى تحول العجز الافتراضي إلى حقيقي وتراكمه، مشيراً إلى أن هذا الإنفاق الكبير لم ينعكس على أرض الواقع ولم يحقق أموراً ملموسة، حيث لا تزال نسب البطالة والفقر مرتفعة.
وأكد، أن الحكومة تتكلم أكثر مما تفعل، وأن الموازنة الثلاثية هي موازنة سياسية للترضية ولم تعالج المشاكل الاقتصادية. وأوضح أن رئيس الوزراء عندما أراد إجراء تغيير للطاقم الوزاري اصطدم بواقع مختلف، مما جعله يتحمل عبء وزراء غير كفوئين في إدارة وزاراتهم وأداء مهامهم.
وشدد أنطوان على الحاجة إلى موازنة احترافية ومهنية تعالج المشاكل والمعوقات ولديها أهداف، مشيراً إلى أن هذا غير ممكن في ظل الاعتماد على مصدر تمويل واحد وغياب التنويع، ومعاناة قطاع الصناعة والزراعة والقطاع الخاص.
وخلص إلى أن حديث الإطار التنسيقي عن ضمان العدالة الاجتماعية وتحقيقها في الموازنة بعيد عن الدقة، نظراً للعيوب التي نراها وعدم امتلاك الأدوات التي تعالج المشاكل والكفاءات التي تمارس دورها.
هدف الموازنة
وأوضح المتخصص في الشأن الاقتصادي همام الشماع أن الهدف الأساسي من إقرار موازنة ثلاثية هو البقاء في السلطة وتجنب ضغط الأطراف السياسية الأخرى على الحكومة في ما يخص الجانب المالي، مشيراً إلى أن رئيس الوزراء ووزير المالية والخبراء الذين يستعين بهم لا يفهمون القضايا الاقتصادية والتوقعات المستقبلية كما يفهمها الخبراء الحقيقيون.
وأضاف الشماع، أن الموازنة الثلاثية مخالفة لكل القيم والمبادئ المالية التي تشدد على أن تكون الموازنة سنوية، حيث يتم إعدادها بناءً على تقديرات لمدة معقولة، وتوقع الإيرادات المحتملة والنفقات الأساسية في ضوء الإيرادات المتوقعة، وربط النفقات بأهداف محددة.
وأشار الشماع في حديثه لـ"طريق الشعب" إلى أن الموازنة الثلاثية وضعت لأغراض سياسية وانتخابية وليست فقط اقتصادية، بهدف البقاء في السلطة وزيادة عدد المؤيدين للانتخابات، مشيراً إلى إطلاق التعيينات وتوظيف أعداد كبيرة جداً.
وأكد، أن الوضع المالي حرج، حيث أن الإيرادات التي جاءت مقابل 156 تريليون دينار نفقات لا تغطي هذا المبلغ، وأن العجز بحجم 19 تريليون دينار كان يفترض أن يكون أكبر لو طبقت الموازنة كما وضعت بـ216 تريليون دينار، ولكن تم اختصار النفقات نظراً لعدم وجود موارد كافية لتوفير السيولة العراقية لتغطية هذه النفقات.
وفي حديثه، أشار الشماع إلى أن اللجنة المالية النيابية هي جزء من التحالف السياسي المشكل للحكومة، وأن ما يريده الإطار التنسيقي وضعه السوداني على شكل موازنة، واختصرها حين شعر بعدم القدرة على تطبيقها.
وأوضح، أن اللجنة المالية حين تقر بخطأ إقرار موازنة ثلاثية، تحاول تبرئة نفسها من المسؤولية، ولكنها في الواقع هي الأساس وهي من أقرت ووافقت على الموازنة بهذا الشكل.