لم يحصد العراقيون على مدار أكثر من ٢٠ سنة ماضية، من المنظومة السياسية الحاكمة، سوى المزيد من الأزمات، الصراعات والحروب، والتي يغذيها نهج المحاصصة الطائفية والإثنية والفساد والسلاح خارج سلطة الدولة، ما جعل تلك المنظومة عاجزة عن تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وإضعاف قدرة البلاد على مواجهة أية مخاطر خارجية محدقة، في ظل هشاشة الوضع الداخلي.
ومع هذا الحال، أضحت هناك ضرورة وطنية ملحة لمطلب التغيير الشامل، الذي "لا يحتمل التأجيل والمماطلة"، طبقاً لباحثين ومراقبين للشأن السياسي، مشيرين الى ان الضغط الإقليمي مفيد في دفع النظام نحو اتخاذ خطوات إصلاحية، لكنه يجب أن يكون مرتبطاً برؤية العراقيين لأزمة النظام وان يكون التغيير استجابة لارادة وطنية عراقية .
ويؤكد المراقبون، ان القوى الممسكة بالسلطة لن تتخلى عن نهجها الفاشل الا بالضغط الاحتجاجي وتوحيد الخطاب الوطني، المدني والديمقراطي، ورفض التدخلات الخارجية، التي أنتجت هذا المنظومة المعلولة في مرحلة ما بعد 2003 ، واستمرأها المتنفذون لغايات ومصالح ضيقة وأنانية .
نظام سياسي مأزوم
رئيس قسم الأبحاث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، د. حيدر سعيد، يقول إن البلاد لم تصل إلى بر الأمان بعد، ولا يزال النظام السياسي مأزومًا، غير مستقر، بعد أكثر من عقدين من سقوط الدكتاتورية في العراق، وفتح مشروع انتقال ديمقراطي، على يد قوة احتلال عسكرية أجنبية.
ويضيف سعيد في حديث لـ"طريق الشعب"، ان الحركة الاحتجاجية المستمرة منذ العام ٢٠١١ ما هي إلا تعبير عن أزمة العلاقة بين الدولة/ النظام/ السلطة والمجتمع، مسترسلا أن "عوامل هذه الأزمة متعددة، لعل في مقدمتها عجز الدولة عن تقديم الخدمات العامة للمواطنين، ومنها خدمة الأمن، وكذلك فشلها في فرض القانون".
ويواصل الحديث: إنها قامت بتعويض ذلك العجز بـ"علاقة زبائنية، تشتري من المواطنين (أو بعضهم) خياراتهم السياسية، مقابل ما تقدمه من أموال وخدمات، غير أن المجتمع وأفراده ليست لهم قدرة وصول متكافئة لهذا النظام الزبائني، الأمر الذي خلق تفاوتات طبقية غير مسبوقة بين المستفيدين وغير المستفيدين من هذا النظام".
ويشير إلى ان ذلك "تزامن مع نزعة سلطوية/ إيديولوجية، تقسم المواطنين بحسب هوياتهم الإثنية والطائفية، وتحرمهم من حقوق أساسية يضمنها أي نظام ديمقراطي، فضلًا عن الطابع السلطوي الذي يشوب ممارسات النظام، والذي أنتج تغولًا للسلطة التنفيذية، وعدم حماية الفصل بين السلطات، وعدم حياد القضاء، وما إلى ذلك من مظاهر. وبالتالي فان كل ذلك جعل المطلب الأساسي للحركة الاحتجاجية ولكل طامح بنظام ديمقراطي هو الدولة، دولة كفوءة، عادلة، حرة، حديثة، ديمقراطية، من دون تحيزات من أي نوع".
ويذكر، أنّ "هذا المطلب مرتبط بالسياسة الداخلية، وهو نتاج أزمة داخلية للنظام. ما يبدو اليوم من أزمة للنظام، ولا سيما بعد تداعيات حرب غزة، مرتبط بسياسات النظام الخارجية وتحالفاته الإقليمية، وهي مشكلة بلا ريب، ذلك أنّها أفقدت العراق إرادته المستقلة، وجعلته مجرد تابع للمحاور الإقليمية. هذا الوضع إشكالي. ولذلك، كان ثمة مطلب دائم باستقلالية الإرادة العراقية".
ويعتقد أن "الضغط الإقليمي قد يسكت عن الحوكمة الداخلية للنظام، مهما كانت مأزومة، إذا كان راضيًا عن توجهات سياسته الخارجية"، مردفا "لا ينبغي لنا أن نعول على الخارج. وهو، في كل الأحوال، أمر خارج إرادتنا".
الضغط الاحتجاجي
ويشدد سعيد على ضرورة "الإيمان بأن التغيير مرتبط بنا، برؤيتنا لأزمة النظام وكيفية إصلاحه. قد يكون الضغط الإقليمي مفيدًا في دفع النظام نحو اتخاذ خطوات إصلاحية، ولكنه ليس النهائي".
ويعوّل سعيد على "الضغط الاحتجاجي في أن يدفع النظام نحو إجراء إصلاح راديكالي، وهو ما كان يمكن أن تنجزه احتجاجات تشرين، لولا أن الطبقة الحاكمة قرّرت أن تحتوي تشرين، لتعود لسلوكياتها الأولى، بدلًا من أن تكون فرصة لتسوية علاقتها بالمجتمع".
التغيير يبدأ من الداخل
من جهته، قال الباحث في الشأن السياسي، هاشم الجبوري قال إنّ "التغيير المنشود في العراق، الذي تطمح له القوى المدنية والفواعل الاجتماعية والسياسية، هو تغيير شامل وجذري مقترن بتغييرات حقيقية في بنية النظام السياسي المتهالك".
وأردف الجبوري في حديث مع "طريق الشعب"، انه "لا يمكن إصلاح النظام السياسي في العراق، إلا بعد إجراء تعديلات جذرية على الدستور، الذي سوّف واحتيل عليه من خلال ترسيخ مبدأ المحاصصة"، لافتا إلى أن "ما يدور في الأروقة الآن من أحاديث حول تداول سلمي للسلطة وتنازل عن السلطة، هو حديث فارغ، فهذه القوى المنتفعة من طريقة إدارتها، لا يمكن لها أن تتنازل عن السلطة، بل إنها أساساً لا تؤمن بأي تداول سلمي للسلطة".
وتابع قائلاً: إنّ المطلوب لتحقيق هذا التغيير، هو توحيد جهود القوى المدنية، والتي تؤمن بمشروع الدولة والديموقراطية، ومواصلة الضغط الذي يمكن ان يؤتي ثماره على المدى البعيد، مؤكدا أنه "لا يجب أن نعوّل او نعقّد آمالا على أي تغيير، يمكن ان يحصل بتدخل خارجي. وجميعنا يدرك أن التغيير عبر التدخل الخارجي معلول ولا يبني دولة مؤسسات، ولا يختلف عما حصل بعد العام 2003، كما يجب ان نؤمن بالتغيير من الداخل بدون تدخل قوى خارجية، لأنها ستزرع من يخدم مصالحها لا مصلحة المواطن والبلاد".
الأكاديمي والمحلل للشأن السياسي د.غالب الدعمي، يجد أن التغيير المطلوب "هو تقوية الدولة على حساب السلاح المنفلت وإبعاد الشخصيات المؤثرة في مرحلة ما بعد عام 2003".
ويقول الدعمي في حديث مع "طريق الشعب"، ان غالبية تلك الشخصيات والقوى المتنفذة متهمة بالفساد وبالإرهاب وتكريس الطائفية والمحاصصة وغيرها، مشيرا الى ان هناك كثيرا من المعرقلات للتغيير الشامل، أبرزها النظام الانتخابي، والسلاح المنفلت.