ليس جديدا أن تكون الحقوق والحريات في العراق، ضمن دائرة الاستهداف المباشر وغير المباشر، اذ تجري محاولات على صعيد القوانين أحيانا، وأخرى عن طريق مصادرة آراء الناس ضمن دوائر اجتماعية، تسعى لتكريس وهيمنة الخطاب الأحادي.
وفي هاتين المساحتين، تجري أولا، محاولات التضييق من خلال قوانين وتشريعات، تشترك فيها السلطة التنفيذية والتشريعية، وهي "متناقضة" مع مضامين الدستور، والمتعلقة بالحقوق والحريات، ولا يخفى على الجميع الإصرار على إبقاء قوانين النظام الدكتاتوري السابق سارية المفعول، ومحاولة وضعها في سياق طبيعي على الرغم من نصوصها "القمعية" الواضحة، ومحاولة تفعيلها بمجرد الشعور باستقرار معين، بحسب ما يؤكده عدد من الأكاديميين والصحفيين.
التضييق على حرية التعبير
واجتماعيا، تبرز هذه التداعيات، بصورة أخرى، من خلال مجاميع تنشط في وسائل التواصل، لها ارتباطات بقوى سياسية، تحاول صناعة رأي عام ضاغط، بحجج الذوق العام والقدسيات وقضايا آنية أخرى، وتسهم في نشر بيانات يتم تذييلها غالبا بعنوان: "أهالي المدينة الفلانية يرفضون إقامة النشاط الفلاني" وهي نشاطات ذات طابع فني او ثقافي في عمومها، ولا تنحاز الى الهويات الفرعية التي يراد تكريسها، والتي تصل أحيانا الى ان يكون الترهيب احدى أدوات منع اقامتها.
الباحث والأكاديمي فارس حرّام، انتقد سياسات التضييق على حرية التعبير التي تمارسها السلطة، مبينا ان "نظام ما بعد 2003 متناقض مع نفسه؛ فهو يدعي الديمقراطية، وثبتها بمواد قانونية في الدستور، لكن على مستوى الفعل لا وجود لأي من ذلك، وهذه نقطة التناقض الأساسية معه نفسه، أي أنه متناقض مع نصه الدستوري".
وقال حرام لـ"طريق الشعب"، ان "أبرز ما يمكن أن تنتقد عليه الحكومة هو سعيها المحموم إلى التضييق على الحريات منذ عامين، كنتيجة لما حصل في احتجاجات تشرين 2019، عبر محاولة تمرير مشاريع القوانين القمعية إلى مجلس النواب، أو عبر وضع بعض اللمسات عليها، إضافة إلى حملات الملاحقة والتضييق ولا سيما حملة المحتوى الهابط التي لا أساس دستوريا لها، وتهدف إلى إحياء مجموعة من قوانين نظام صدام حسين".
تعارض مع الدستور
وأشار حرام الى "التناقض بين النصوص القانونية الموجودة في المحاكم الخاصة بالحقوق والحريات، والتي تعتمد على تشريعات حزب البعث المحظور، ولكنها تتعارض مع النصوص الدستورية التي سنت لاحقاً، والتي تكفل الحريات والتعبير والاحتجاج والحصول على المعلومة، وهذا تناقض يجرّ العراق إلى الماضي الدكتاتوري".
ولفت الباحث والأكاديمي الى انه "يتم الآن إحياء مفاهيم مثل الذوق العام، الآداب العامة، سمعة الدولة، سمعة المسؤولين، وربما يتم سن تشريعات وفقاً لهذه المفاهيم. ونرى اليوم ما تقوم به بعض الوزارات من توجيهات تمنع نقد رموز الدولة، وهذا معناه العودة إلى حقبة صدام الدكتاتور من الناحية العملية".
ورأى حرام، ان "عزوف الطبقة السياسية عن الاستماع إلى الناس، واتهام كل المنتقدين بأنهم أبناء سفارات وصهاينة، يعد مؤشراً كبيراً على إمكانية اندلاع الاحتجاجات مرة أخرى، فعندما لا تصغي لي سأغضب بوجهك، وعندما يشيع الفقر والإدارة غير الصحيحة للدولة، والخلط بين السلاح والمجال السياسي، فهنا تكتمل خلطة وجود دولة فاشلة، وهذا ينتج وضعاً غاضباً للناس ويقود إلى تشرين جديدة".
قمع الحريات
من جانبه، قال الصحفي منتظر ناصر، ان "هناك دفعا وتطبيقا منهجيا لممارسة المنع والحجب وقمع الحريات، لاسيما الصحفية والإعلامية، وأول إصرار على هذا النهج يتضح من عدم تغيير القوانين التي كانت سائدة في الحقبة الماضية ابان النظام السابق خاصة قوانين مجلس قيادة الثورة المنحل لعام 1969".
وتساءل ناصر، عن "قيمة وضع فقرة 38 في الدستور والتي تقر وتؤكد على حرية التعبير وفي نفس الوقت وطوال 5 دورات انتخابية لبرلمان مكتمل الأركان، لكنه لا يجرؤ على تغيير فقرة من هذه القوانين، بل يتم الإصرار عليها؟!"، لافتا الى ان "المنظومة الحاكمة تصر على التعامل بهذه القوانين ومعظم المحاكمات التي تجري تكون على أساس هذه المواد والقوانين، وبالإمكان الاطلاع عليها، وهي للأسف مواد مقيدة للحريات ولا تتماشى مع روح الدستور ولا تتماشى مع العصر كذلك".
وأوضح ان "النظام الدكتاتوري اقر مثل هذه القوانين عام 1969 ولم يكن في ذلك الوقت غير جريدتين ومحطة تلفزيونية واحدة. ومن الصعوبة والغرابة ان يستمر مثل هذا الامر حاليا".
وبيّن ناصر، ان "المخيف في الموضوع هو الكتاب الصادر عن مجلس القضاء الأعلى عقب ملاحقة ذوي المحتوى الهابط في شباط 2023 ودمج مفردة المحتوى الهابط مع ملاحقة المسيئين لمؤسسات الدولة والكتاب رسمي ومعلن"، موضحا ان "المسيء لمؤسسات الدولة يكون مطلوبا وفق المادة 226 من قانون العقوبات لعام 1969 وهي مادة دكتاتورية بحتة ولا تمت لأي نظام يحترم حرية التعبير. الطبقة السياسية لا تفهم ان هذا النظام ينبغي ان يدافع عن الحريات اكثر من الدفاع عن أي شيء اخر، لانه تأسس على هذا الأساس".