يعد وجود هيئات مفوضية حقوق الإنسان في البلدان، أمرا ضروريًا لتعزيز وحماية حقوق الإنسان وضمان الالتزام بالمعايير الدولية، كما انها تشكل إشارة الى وجود نظام سياسي ديمقراطي.
وتكمن اهمية هذه الهيئات، بحسب مختصين، في ان لها دورا مهما تلعبه في حماية والحريات ورصد وتوثيق الانتهاكات وتقديم الدعم القانوني لضحايا الانتهاكات واعداد التقارير وتقييم مدى الالتزام بالمعايير الدولية، الى جانب العديد من المهام الاخرى المناطة بهذه الجهة الرقابية.
وفي عام 2021، أنهى مجلس النواب العراقي ولاية الدورة الثانية للمفوضية العليا لحقوق الإنسان بعد انتهاء مدتها، ومنذ ذلك الحين، توقفت نشاطاتها الأساسية لخلوها من مجلس مفوضين.
ولم ينجح البرلمان حتى الان في تشكيل مجلس مفوضين جديد، رغم الترشيحات التي قدمت.
وشكلت المفوضية عام 2012 وفقا لقانون (53 لسنة 2008 المعدل)، بعد حل وزارة حقوق الإنسان بشكل رسمي خلال الحكومة الثانية لنوري المالكي (2006-2014).
وجاء تشكيل المفوضية وفقا للمادة (102) من الدستور العراقي النافذ لسنة 2005، والتي تنص على تشكيل هيئة وطنية مستقلة تعنى بحقوق الإنسان تحت اسم (المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق). وتوافق تشكيل المفوضية أيضا مع مبادئ باريس لحقوق الإنسان، وهي مجموعة معايير دولية تنظم وتوجه أعمال المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان. صيغت هذه المبادئ في حلقة عمل دولية بشأن المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان، عُقدت في باريس سنة 1991، ثم اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1993.
نتجه نحو السلطوية
يقول رئيس منظمة مدافعون لحقوق الانسان، د. علي البياتي لـ"طريق الشعب"، إن "التعامل بهذا الشكل مع هذه المؤسسة هو دليل على عدم ايمان الطبقة السياسية التي تتحمل هذه المسؤولية، بالنظام الديمقراطي او الياته".
ويضيف البياتي وهو احد اعضاء مجلس المفوضية المنتهية ولايته، أن "العملية السياسية منذ تأسيسها بعد العام 2003 مرت بعدة مراحل، فقد مرت في مرحلة كانت فيها الطبقة السياسية تتعاطى فقط مع ما يخدم مصالحها ومع ما يعطيها الفرصة لتداول السلطة، وهي قضية الانتخابات وتوزيع المناصب عن طريق تحاصص مذهبي وقومي واثني، وبالتالي كانت تأخذ منها ما ينفعها وتترك ما لا ينسجم مع مصالحها".
ويواصل حديثه بالقول: إنه "في هذه المرحلة، بدأنا نستشعر اليوم ان هناك عدم ايمان حقيقي بهذا النظام الديمقراطي، وان هناك توجها الى السلطوية. كل خطوات الطبقة السياسية تؤكد ذلك، وقضية مفوضية حقوق الانسان هي واحدة من هذه القضايا".
وينوه الى إن "المفوضية ليست جهازا تنفيذيا، ولا تمنع الانتهاكات، ولكنها تراقب اداء الحكومات وتسجل ملاحظاتها وتشارك المؤسسات الاخرى، وخاصة القضاء العراقي في التعامل مع الملفات"، مضيفا أنه "لم يكن هناك نضوج واضح وكامل في الية التعاطي مع ملفات حقوق الانسان، من طرف القضاء العراقي"، بحسب قوله.
تحركت في أيام تشرين
ويشير الى ان "المفوضية بعمرها القصير، كانت اول مواجهة لها مع حقوق الانسان في أيام تظاهرات تشرين. فمن يراقب اداء هذه المؤسسة انذاك، يستطيع ان يقول انها كانت تعمل وتحرك ادواتها من اجل مراقبة انتهاكات حقوق الانسان. الكثير من القضايا احيلت الى القضاء العراقي وتم فتح تحقيق فيها، لكنها لم تر النور على مستوى التحقيقات القضائية، وعلى مستوى مساءلة ومحاسبة الجناة".
ويجادل البياتي بأن الطبقة السياسية تدرك ان هناك خطورة في وجود هذه المؤسسة، وبالتالي من الافضل ان يتم اسكاتها، وهذا ما حدث بالفعل، حيث لم يتم تشكيل مجلس مفوضين لمفوضية حقوق الانسان، مبينا ان "مجلس المفوضين هو المظلة الدستورية التي بامكانها ان تحرك المفوضية باعتبار انها رأس الهرم في ادارة المفوضية، وانها قادرة على تحريك الادوات والموظفين، ومكاتب المفوضية والتركيز على ملفات حقوق الانسان الحقيقية".
ويجد أنه "في ضوء ما تقدم لم يتم تشكيل مجلس المفوضين منذ ما يقارب ثلاث سنوات، وان المفوضية شبه مشلولة وضعيفة. نعم الكوادر الكفوءة والخبيرة موجودة، لكن في ظل وجود مجلس مفوضين غير قادر على العمل، كيف يستطيع الموظف او مدير مكتب المفوضية في المحافظة ان يواجه الحكومة المحلية او المركزية؟".
وتطرق البياتي الى "قرار المحكمة الاتحادية برفع الحصانة عن مجلس المفوضين. وهي فقرة اخرى اضعفت المفوضية ومجلسها، واعتقد ان مجلس المفوضين القادم لن يكون لديه القدرة على ان يكون بنفس الفعالية التي كان عليها مجلس المفوضين السابق".
وعن ملف حقوق الانسان في العراق قال البياتي ان هناك تناميا وزيادة في الانتهاكات، خاصة في ما يتعلق بحرية التعبير عن الرأي، وهناك ضغوطات وتكميم للافواه وملاحقة وتهديد. وهذه الادوات احيانا تكون حكومية او سلطوية او حزبية، من اجل تضييق مساحة حرية التعبير عن الرأي وحرية الصحافة والاعلام.
ماذا يعني غياب مجلس المفوضية؟
وعلى صعيد متصل، قال رئيس المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان، د. فاضل الغراوي إن "غياب مجلس مفوضية حقوق الإنسان منذ فترة تزيد على ثلاث سنوات، يمثل إشكالية كبيرة، كون كل الصلاحيات الخاصة بالمفوضية وأعمالها وإدارتها، تتعلق بوجود مجلس المفوضين، سواء في القرارات او التقارير، وإحالة الشكاوى والآليات الفنية والقانونية والإدارية".
واضاف الغراوي لـ"طريق الشعب"، انه "منذ عام 2021 ولغاية اللحظة لم يتم تشكيل او اكمال متطلبات تشكيل مجلس المفوضين، من قبل لجنة الخبراء"، مبينا ان "عدم وجود مجلس مفوضين، يعني ان الآلية الرقابية المتعلقة بقضايا حقوق الإنسان غير موجودة، ولا أحد يراقب مؤسسات الدولة ومدى التزامها بحقوق الإنسان".
تراجع واقع حقوق الانسان
من جهته، قال رئيس مؤسسة حق لحقوق الانسان، عمر العلواني: إن "المفوضية لا تزال حتى الان محافظة على تصنيف (A)، وهو وفق تصنيف المنظمات الدولية يعتبر تصنيفا متقدما بمستوى عال"، فيما شخّص عدد من المهددات لهذا التصنيف الذي يواجه خطر التراجع.
وأضاف العلواني لـ"طريق الشعب"، أنه "بغض النظر عن التصنيف وملاحظاتنا الموجودة، لكنه يعد تصنيفا متقدما، في حين انه بات اليوم مهدداً، لعدة اسباب واهمها استقلالية المفوضية"، مبيناً انه "وفق المتعارف عليه، يجب ان تتمتع بالاستقلالية، بينما يديرها اليوم وزير العدل، وبالتالي من غير الممكن ان يراقب اداء الحكومة وزير فيها، تتهم وزارته بأنها الأكثر اتهاما لحقوق الانسان".
واشار المتحدث الى ان "العراق لا يزال يسجل تراجعاً بواقع حقوق الانسان، خصوصاً في ظل الحكومة الحالية التي عليها العديد من المؤشرات التي تتعلق بحقوق الانسان"، مرجعا غياب مجلس المفوضين الى "المناخ السياسي المضطرب في العراق. الحكومة لا تتشكل وفق التوقيتات الدستورية، ومجلس النواب اليوم من دون رئيس منذ فترة، الامر الذي يعكس عدم اهتمام الطبقة السياسية بهذه الهيئة الوطنية، بالاضافة الى ان المحاصصة ايضا شقت طريقها الى هذا المجلس الذي تتقاسمه القوى النافذة في ما بينها.
وخلص الى ان "نشاط المفوضية في أيام انتفاضة تشرين 2019، وبياناتها وتقاريرها كانت لا تنسجم مع توجه الحكومة، وهذا على ما يبدو كان أحد اسباب انتباه القوى السياسية النافذة الى ان عمل مفوضية قد يشكل خطرا عليها، خصوصاً ان ما يصدر عن المفوضية كان مؤثرا".