تحتل مجموعة الشاعر رحيم الغالبي (جسر من طين) مساحات زمنية شاسعة. فرغم أنه بدأ النشر في نهاية الستينيات، وهو لم يزل في بواكير حياته، ثم امتنع عن النشر لظروف خارجة عن ارادته، ولطبيعة شخصيته الخجولة والشديدة الحساسية والتي جعلته يتردد في النشر أربعة عقود كاملة، فقد بدت المجموعة التي صدرت عام 2010، ضمن منشورات مجلة الشرارة، وكأنها مجموعة أولى للشاعر، وأنه قد بدأ الشعر حديثاً.
يبني الشاعر الغالبي هيكله الشعري، حجرا حجرا، هذا الهيكل الذي يضم المعاني والكلمات، كما يضم نتفا من أوجاعه وأحلامه وآماله. كانت البدايات الأولى في الشطرة، ضمن مناخات سياسية واجتماعية غير مواتية . والشاعر يتلمس هذا الدرب فيحاول العبور كما يحاول ان يستنشق هواءً غير ملوث، ضمن أجواء من الرعب والقمع ومصادرة الرأي.
كانت بدايته خجولة، لكنها غير متعثرة، وصوته يعلو أحيانا ويخفت أحيانا أخرى وذلك بسبب هيمنة أعتى نظام منتج للرعب في تاريخ العراق. وقد جرت محاولات احتواء المثقفين وتدجينهم . ثم تجنيدهم لخدمة النظام وتلميع صورته. وكان ذلك صدمة للمثقفين عامة وللشعراء خاصة، فمنهم من صمد وبقي على نقائه الفكري، ومنهم من تحول إلى بوق للسلطة. وهو – حتماً – ليس البوق الذي ذكره رحيم الغالبي في إحدى قصائده:
( البوق وبنادم سوه
ايموتون لو ماكو هوه )
تلك الشريحة من الشعراء الذين أجبروا على تغيير قناعاتهم، وأصبحوا أبواقا للسلطة، التي أغدقت عليهم العطاء إذا امتثلوا وقطعت عنهم الأرزاق ثم الأعناق إن عارضوا. وفي هذه الظروف التآريخية المحفوفة بالرعب، التزم رحيم الصمت، أو كان يكتب بسرية تامة، فتتسرب بعض قصائده عبر أصدقائه. وقد ينشر بعضا منها في بعض المنابر الوطنية، حينما يرى أن ثمة انفراجة في الأجواء السياسية، كما حدث في بداية السبعينيات حينما نشر بعض القصائد في صحيفة طريق الشعب، الناطقة باسم الحزب الشيوعي العراقي.
التقيت بالشاعر رحيم الغالبي بعد عقود. كان يحمل روح طفل في نقائه وبراءته، رغم تجاعيد السنين التي تشبه شقوق أرض يباب. وبيد مرتجفة قدم لي جسره الطيني، وكأنه يهدي روحه. تلك الباقة من الأشعار والتي تجعلك تتيه عبر سفر زمني طويل. صدمات وأحزان، حروب وعنف، طموحات وآمال وقليل من الأفراح. هل تستطيع كل هذه العوالم ان تعبر من خلال هذا الجسر الطيني إلى ازمان قادمة؟ وهل يستطيع هذا الجسر ان يستوعب هذه الحفنة من الأمنيات؟
(لاتعبرين ، اخاف عليج ...لاتعبرين
احس روحي جسر من طين ) .
وقد تعمد ان يضّمن قصيدته –عنوان المجموعة - أبياتا للشاعر المُغيّب أبو سرحان، ليجعل من شعره امتدادا، حيث معين الشعر والفكر لايموت. وهذا يقودنا حتما إلى الأرضية الشعرية في العراق عموما والجنوب خصوصا، حيث يشكل الشعر الشعبي روحه وكيانه، ولايمكن ان نتخيل الشعر بهذه القوة والمتانة والغنى، بمعزل عن هذا العالم السحري، المكّون من النهر والنخل والحب والخمر، وحيث تمتزج هذه العناصر لتكون رحيق القصيدة الذي امّد الأغاني الشعبية، وجعلها لحنا وشجنا غمر تلك السهوب المغبرة، وتشابك مع تلك القيم الرائعة القائمة على الأخوة والكرم والوفاء والحب الحقيقي.
( كون اكعد انه من الصبح
ماشوف سجينه وجرح
عمال اشوفن والفلح ....)
ولا شك أن الشعراء الشعبيين سيجدون أرضية رائعة لموروث شعري كبير ترك بصماته على الساحة الأدبية، واضحة معينا لا ينضب. ومن هذا الموروث نتذكر الشاعر الفذ الحاج زاير الذي قال عنه احد النقاد الفرنسيين بانه شكسبير العراق، لما يزخر به شعره من المعاني الأنسانية الهائلة، ومن صوره التي تضاهي فحول الشعر العربي. وهناك عبود الكرخي الشاعر الذي لايتكرر، حيث رصد الظواهر السياسية والأجتماعية وعراها امام الناس . ولعل قصيدته عن البرلمان في ذلك الوقت حاضرة في الذهن، وكأنها كتبت لهذا الزمان. وهناك عدد لايحصى من الشعراء المبدعين الذين اثروا الساحة الشعرية أمثال مظفر النواب الذي اسكرته الفصحى، تاركا الشعر الشعبي، وعريان السيد خلف الذي مازال يحلق في سماء الشعر وكاظم اسماعيل كاطع وغيرهم من الشعراء الذين احترقوا عطاءً.
وقد غرف رحيم الغالبي من هذا المعين، ولكنه أفرد لنفسه صوتا شعريا خاصا، رغم اعجابه بهذه الرموز، وكأنه يواصل مسيرتهم، ويتعمق في معاناتهم؛
(طلبيت من شرطي...جكاره
بس بجيت بروحي وحدي دخنيت
لأن رادوا اعتراف ...وماحجيت )
لا شك انها معادلة غير متوازنة بين القيم الأنسانية والوطنية التي يحملها الشاعر وبين السلطة وبشاعتها. وتكمن قوة الشاعر في مساحة الحب الذي يختزنه .
(احبك يا وطن ..مجروح
واحضنك ياوطن ..بالروح)
تعبر قصائد رحيم الغالبي عن وجدان الجنوب العراقي، وعن القيم الوطنية. فهو يتعطش إلى الحرية. ولكنه يهمس همسا، حيث أن مشروع القصيدة يجعل صاحبه خطرا على النظام، مما يجعله اي الشاعر، يرفع درع الرمز ليقي نفسه. ويغير المسميات ويلوذ بأحزانه التي هي سمة عراقية بامتياز.
(كالولك نهر يمشي عكس ممشاه
جي ضيّع مصبه وما بعد يلكاه ..)
حمل الغالبي همه الشعري صليبا. فكان البحث عن الحرية هاجسا يتدفق في أغلب جمله الشعرية، وهذا المقطع يأتي ضمن هذا السياق:
(اكلك حيل اكرهني ، احبك حيل
ولو حبك مدينة يصير بيها السجج شرطه وليل)
فالحب مكرس للقيم ممثلة بالقوى اليسارية وما تمثله والتي تعاني من إرهاب السلطة. لقد مزج الشاعر بين العواطف الذاتية والمباديء العامة . فالحب حزمة من الأنفعالات والقناعات سرعان ما تتحد بشكل جميل . فقد يكون الغزل تعبيراً يرمي به إلى معان اخرى.
كما يزخر شعر رحيم الغالبي بالصور الفنية التي تؤطرها مسحة بلاغية مدهشة .
(هواجس روحي نور إو ضي
مشه الحايط إوظلّ الفي،
عبرت اشگد سواجي اوياك،
عافتني الجروف إو ثبت بس الميّ...)
وهكذا تنساب الصور بشكل جميل أخّاذ، وبلغة بسيطة قادرة على الوصول إلى القارئ او المستمع. ورغم أن القصائد غير مؤرخة في أغلبها، لكنها ترسم التضاريس الأجتماعية والسياسية، والتي انعكست في وعي الشاعر عبر هذه الحقبة المضطربة، حيث سياسة القمع واذلال المجتمع، ومحاولة تدجينه وبث الرعب في أوصاله، وحيث الأمنيات المكبوتة لدى الشاعر هي وسيلة دفاعه:
( مليت المذله .. وطاحت متوني
يا محله العراق بغير زيتوني)
ولعل التنوع في جسر من طين يعكس اطاره الزمني . فهناك نفحات من الغزل تعبر عن وجدان وعاطفة مكبوتة، ولكنها من ناحية أخرى تبوح بغزل أوسع، وهو الهيام بالمبادئ والقيم اليسارية، حيث يتلاشى الحزن احيانا ويُستبدل بتفاؤل، فترفل قصائده بالحياة، وتسبح بولادة المطر والشجر والأنسان.
يلجأ الشاعر إلى الغموض، بحيث أنك كقاريء تذهب في اتجاهات مختلفة في تفسيراتك. والغموض في الشعر الشعبي جزء من عملية الإبداع. ولكنه من ناحية أخرى يقي الشاعر من انتقام السلطة التي اغتالت الثقافة. تتجلى الغربة في قصائد الغالبي، برغم أنه أصر على التشبث والبقاء في مدينته، وكأنه جذر نخلة تكافح التصحر، لذالك فهو يلوذ بالطفولة من أهوال السنوات الرصاصية القاتمة.