اخر الاخبار

أولاً: الفلاح العراقي في العهد الملكي:

تُعدّ دراسة التاريخ من خلال الهامش محاولة لاستعادة صوت الفئات التي طالما ظلت غائبة أو مُقصاة من السرديات الرسمية، ومنها الفلاح العراقي الذي ظلّ لقرون يعاني من التهميش والاستغلال. وإذا كانت الوثائق الرسمية قد أغفلت معاناة الفلاح أو اختزلتها في تقارير اقتصادية أو قانونية، فإن الشعر الشعبي مثّل تعبيراً حيوياً عن مشاعره وأحواله، مسجّلاً بدقة مريرة طبيعة الحياة الريفية في ظل النظام الإقطاعي خلال العهد الملكي (1921–1958). وقد عبّر الشعر الشعبي عن الفلاح العراقي لا بوصفه فاعلاً اقتصادياً فحسب، بل ككائن بشريّ مسحوق، يئن تحت نير الإقطاع والقهر والجهل والمرض.

كرّس النظام الملكي في العراق البنية الإقطاعية التي كانت قد ترسخت منذ العهد العثماني. فبفعل سياسات "الطابو" والالتزام، تحوّلت الأرض إلى سلطة يتحكم بها شيوخ العشائر والملاك الكبار الذين تحالفوا مع الاحتلال البريطاني، بينما جُرّد الفلاح من أي سند قانوني أو حماية اجتماعية. وقد رُوّج لهذه البنية بوصفها الضامن الوحيد للاستقرار الريفي، لكنها في الواقع كانت تكريساً للعبودية الزراعية.

لم يكن الشعر الشعبي مجرّد أداة جمالية، بل كان بمنزلة صرخة في وجه الظلم، وشهادة حية على الاستلاب والتعب والمهانة التي عاشها الفلاح. فقد وثّق الشعراء الفلاحون المعاناة اليومية من جوع وحرمان واستغلال، في قصائد تُعد وثائقَ شفوية تعبّر عن وعي شعبي حادّ بالظلم الطبقي.

يقدّم الشاعر جبر حسن العبيدي لوحة مريرة عن عمل الفلاح في الزرع والحصاد دون أن يجني شيئاً من محصوله:

يا بني الاوطان الكم ارد اوجه هالكلاـم

ليش يتحكم الطاغي، ايكَضي ليله بالغرام

وآنه اكَضي الليل كله بالونين وبالنواعي

حتى تطهير السواقي والبذر كله عليه

والشمس تضرب ابمتني، والحصاد احصد بديه

والدياسه والذراوه والنقل والعنبريه

وبالجَسـم ياخذ ثلاثه وآنه واحد ماله داعي

هذا مرواحي ودكَرتي وهاي مسحاتي وفداني

ودوم شكباني اعله متني وآنه الاكرّب على احصاني

ودوم حافي الجدم وركض ماشفت راحه بزماني

ودوم كوخي اعليه مظلم محد بحالي يراعي

هذه القصيدة، التي تعكس تفاصيل العمل المضني، تصف ببراعة كيف يُسلب الفلاح منجزه الزراعي بينما يُترك في فقر مدقع.

وفي قصيدة اخرى للشاعر خضير الحاج عبد الرضا، تُرسم صورة قاتمة لحياة الفلاح، حيث لا مأكل ولا ملبس ولا أمل:

مو يزّي تاكل حاصلي           وابقى بديوني مبتلي

او لاكو أغميس عد هلي        اوعريانه كِل اعيالي

وانت ابيتك اشكال              عنبر او حنطة بجلال

تلعب اتطشر بالمال             وآنه اجويسي خالي

تلبس وتنزع بالقوط           وآني اثويبي مرعوط

وامزرزر ابعشر اخيوط           او لايوم ترحـم حالي

هنا تتجلى ثنائية العري والجوع بوصفها عنواناً لحياة الفلاح، في مقابل بحبوحة المالك الذي يجني الأرباح دونما جهد.

ويعبّر الشاعر عن انتفاء الكرامة لدى الفلاح، بحيث يُهان ويُسبّ ولا يُنادَى حتى باسمه، كما في هذه الأبيات:

ازرع الحنطه والشلب          من بين اديّه او تنّهب

ساعة تشتمني وتسب          ساعة تناديني ولَك

تستنكف اتسميني             وباسمي متناديني

او لو سلّمت تجفيني          متخاف دورات الفك

في هذا المقطع، يتداخل العنف اللفظي مع الاستعباد الرمزي، ليكشف كيف كانت العلاقات الاجتماعية في الريف قائمة على إذلال الفلاح.

ويرصد الشاعر عدنان حسين العوادي دورة العمل الشاق التي لا تقود إلى أي مردود فعلي:

تبدي من الكراب ومنّه تتعدد                  وبيوم الكري بطرت الفجر تكَعد

ومن بعد الچري والشوچ دس واحصد         وتالي الزرع لن ابطركَ هالمرواح

                                    ....

تكَضي العمر وانت تلطم وتلهط               ما ينكَضي شغلك على طول الخط

وبالتالي ابد ما اضوكَ قزّ القرط              وتطلع صفر لا منّ الاجه ولا الراح

حيث يتحوّل العمر إلى تعب متواصل، يُستنزف في الأرض التي لا يعود ريعها لصاحب الجهد، بل لمَن يملك وثيقة الطابو.

 وفي قصيدة مؤلمة، يسلط الشاعر الضوء على التفاوت الطبقي الذي يجعل الإقطاعي يمتلك القصر والسيارة، فيما الفلاح لا يملك حتى العلاج:

كِل هذا التعب وانت بعد جوعان                 وبذاك البرد تمشي شبه عريان

ومن جور المرض جسمك غده نحلان           لكن يا طبيب اللّي يداوي جراح

                                      ....

والاقطاعي سيارة وقصر عنده                  من القوط جامع كِل جنس نضده

كل خطوه المشاها يتبعه عبده                 وعلى راسك يجي يامر بكِل مصباح

هنا تتجلّى بنية الاستغلال بشكل فجّ، حيث تسود القسمة الجائرة وتُختزل العلاقة الإنسانية إلى علاقة عبودية صريحة.

إضافة إلى ما سلف، يجب الإشارة هنا الى ما ذكره المؤرخ حنا بطاطو، بخصوص الشيخ الاقطاعي في العهد الملكي، بعد أن بدأ يعتمد على الحوشية – وهم شرطته المسلحة- لفرض الطاعة والخضوع على أفراد قبيلته، وبدأ الشعور بالنفور يعم أفرادها، ومن هنا بدأت الرغبة في الهروب، ومثال على ذلك، بعض ما ردده رجال قبيلة البو محمد:

أرد اشرد لبغداد من هالعشيره          لاتكسر المجبور، لا عدها غيره.

أرد اشرد البغداد من هالفلاحه         لاتشبع الجوعان، لابيها راحه.

وبذلك، مثّل الشعر الشعبي في العهد الملكي وثيقة حية لما يمكن تسميته ب ـ"التاريخ غير الرسمي" لحياة الفلاحين في العراق. لم يكن الفلاح مجرد ضحية صامتة، بل كان فاعلاً في قول الحقيقة، وإن لم يكن يمتلك سلطة التغيير. عبر صوته الشعري، قدّم شهادة دامغة على النظام الإقطاعي وممارساته الجائرة، وكشف عن تمزقات الريف العراقي تحت قبضة السادة. وهذا ما يجعل الشعر الشعبي مرآة حقيقية لتاريخ الهامش، ناطقةً بلسان الذين لم يملكوا يوماً سوى معاولهم وأصواتهم وكرامتهم المهدورة.

 

ثانياً: الفلاح العراقي بعد ثورة 14 تموز 1958:

شكّلت ثورة 14 تموز 1958 لحظة مفصلية في التاريخ العراقي الحديث، وكان الفلاح العراقي أحد أبرز المنتفعين من تغيّر النظام السياسي من ملكيّ إلى جمهوريّ. فقد أنهت الثورة نظام الإقطاع، وشرّعت قانون الإصلاح الزراعي الذي أعاد توزيع الأراضي على الفلاحين، ومكّنهم من المشاركة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية عبر تأسيس الجمعيات الفلاحية. وقد انعكس هذا التحوّل الهائل في وجدان الفلاح العراقي، فكان الشعر الشعبي لساناً ناطقاً بفرحه وفخره ووعيه الجديد، كما عبّر عن التحديات التي واجهت تلك المنجزات لاحقاً.

استقبل الفلاح العراقي ثورة تموز 1958 بفرح جارف، لم يكن سياسياً فحسب، بل وجدانياً وإنسانياً عميقاً. وقد عبّر الشاعر عباس الحاج اهجيّج، رئيس الجمعية الفلاحية في المدحتية، عن هذا الشعور بقصيدة حماسية:

لبس ثوب الشرف والعز اله اتفصل

وشعب اعراكَنه لغزه "بزعيمه" انحل

"بيوم ارباطعش تموز" بي حصل

وحصل حكم "جمهوري" وبي فرحان

 في هذه الأبيات، تظهر صورة "الزعيم" عبد الكريم قاسم بوصفه المنقذ، وتجسّد الثورة لحظة ولادة جديدة للفلاح، فيها أمنٌ وأمل. ولم يكن اهجيج وحده من عبّر عن هذه اللحظة؛ فقد كتب الفلاح محمد الأشبال، في أوبريت "بيادر ذهب"، يقول:

أحسب وعد ايام وانطر الحاصل

تاليها حكَي ايصير بالجسمه باطل

...

ارضي ابدموع العين خضر زرعهه

لاجن يجيهه الغير يحظه ابنفعهه

وهذه الأبيات تعبّر عن المفارقة بين الجهد والفقدان قبل الثورة، وتُمهّد لوعي جديد يتوق للعدالة.

صدر قانون الإصلاح الزراعي عام 1959 ليقضي على مظاهر الإقطاع ويعيد توزيع الأراضي على الفلاحين، ما ولّد لدى الفلاح شعوراً بالكرامة والانتماء للدولة، فقال الشاعر عدنان حسين العوادي عن هذا التحول:

قانون الاصلاح البيه تفرح دوم       والينصف من الظالم وللمظلوم

والينطي الأرض للّي كبَل محروم        وما يبكَه بعد تعبان يا مرتاح

في وقت كان الفلاح متحمساً لحسم هذا الموضوع بأقل وقت، كي يلمس تطبيق قانون الإصلاح فعلياً، ففي هذا الشأن كتب الشاعر حسين جبر العبيدي من الرفاعي:

نريد توزيع الاراضي بليلها كَبل النهار

حتى يتحطم الطاغي تاخذ اعليه القرار

عدل قانونك يعادل خذلي من اعداي ثار

عن لسان النصر هاذي وعن لسان اهل الرفاعي

 وانتصاراً للوعي الشعبي للديمقراطية الجديدة، قال الفلاحون:

عهدنهiبخير ديمقراطي يا فلاح

عهدنه بخير بيه انت تظل مرتاح

عهد )عبد الكريم( اصبح عهد اصلاح

(اكريم والله اكريم شاده بعِزه وهو احماه)

 وكانت الجمعيات الفلاحية أداة لتنظيم الفلاحين، وتسهيل الوصول إلى القروض والبذور والمعدات الزراعية، وقد عبّر الشعر الشعبي عن هذا التحوّل التنظيمي بإيجابية وحماسة واضحة:

يالفلاح بالحمله الزراعيه

تثمر خير، وتعم الرفاهيه

يالفلاح عنوانك "الجمعيات"

بيهه اشما تريد اتحصل الغايات

حفارات، ماطورات، تسليف، ومفاهيم اجتماعيه .

وكذلك ادى ذلك الى تحوّل اجتماعي عميق، وأصبح الفلاح يفتخر بانتمائه الجمعي، كما في قصيدة:

الجمعيّات الفلّاحيه

تحبك يالبيك الاُمّنيه

وجبت لشعْبك كل حرّيه

  بتموز وجبت العز لينه

استرّت لمّن شخّصك سالم

"جمعيتنه ورب العالم

غصّبن عالغادر والظالم

كل حين وكل خاين وينه

 رغم كل تلك المنجزات، لم تخلُ الساحة من محاولات الإقطاعيين لاستعادة نفوذهم، أو على الأقل التعبير عن غضبهم من التغيير الذي جردهم من امتيازاتهم. ففي قصيدة ثامر آل حموده، نقرأ سخرية مريرة تعبّر عن  فقدان الامتياز:

يا عبد مسلم اشبصرك بيّه

ضاكَت الوسعة تراهي اعليّه

هاي عاقبتي بتالية العمر     إفراكّ خلّان اوفكَر فوكَ الكبر

والتعاقد مني ماخذله كتر       اوعَلي مغضب ريّس الجمعيّه

وفي أبيات شعرية أخرى أظهر فيها ضعف الاقطاعيين دون مواربة إبان صعود العنف الثوري في العام الأول من الثورة، بشقه الشيوعي وهو يشير إلى "المطرقة والمنجل" وهي الرمز الشيوعي الذي يمثل حسب تعبيرهم "التضامن البروليتاري بين العمال الزراعيين والصناعيين"، وكذلك "الحبال" وهي ترمز للهتاف: (ماكو مؤامرة اتصير والحبال موجودة)، ويوضح رغم خضوعهم لتطبيق قانون الإصلاع الزراعي، إلا أن الشارع الملتهب يراهم مثقلين "بالذنب" كونهم كانوا اقطاعيين، ولم يبرح هذا الذنب أن يفارقهم، للاقتصاص منهم إلى الحد الذي يرون بأن "قتلهم حلال"، كما هو واضح:     

اتحيّرت  شصنع او شعملْ     من شفت وكتي تبدّلْ

اتصابح ابمطركَه او منجلْ     ومسي اكَبالي الحبالْ

                                     ...

اولو ردت تعرف الداعي       مذنب وذنبي اكَطاعي

اخضعت لاصلاح الزراعي      اوفوكهه چتلي حلالْ

مما لا شك فيه، أن ذلك لا يرضي القوى الاقطاعية، وجراء ذلك قتل الكثير من الفلاحين في عموم العراق أثناء تطبيق قانون الاصلاح الزراعي، وتأسيس الجمعيات الفلاحية، ونشر الفلاحون الكثير من سائل الاحتجاج في الصحف العراقية، وسنذكر هنا، حادثة اغتيال صاحب ملا خصاف، في ريف الكحلاء في العمارة ، الذي انصرف بعد ثورة 14 تموز بكل حيوية للعمل بين الفلاحين في تكوين جمعياتهم، وكان شوكة في عيون الإقطاعيين والقوى المناهضة للثورة، حتى تأمروا على قتله، واثناء عودته في "مشحوفه" من إحدى جولاته التي يقيمها لأغراض تنظيمية، وتفقد أحوال الفلاحين مع رفيقه السيد حامد الموسوي، استقرت إطلاقات نارية في رأسه وجسمه لتنهي حياته فوراً، في مدخل نهر الكحلاء عام 1959، وقد خرجت تظاهرات في جميع أنحاء العمارة تندد بهذه العملية، وتعالت الاصوات لأخذ الثأر من قاتل صويحب، وبسبب سطوة الشيخ الاقطاعي الذي أمر بقتله، سجل الحادث ضد مجهول في المحكمة، وهكذا أنتهى الموضوع، وقد وثق الشاعر (مظفر النواب) بقصيدته "مضايف هيل" هذه الحادثة، والتي ابتدأها بمقطوعة نثرية، تقول: (بدأ الاقطاعيون بنهر الكحلاء، وابتدأت الرده عام 1959...)، وهي إشارة مهمة، لاسيما مفردة "الردة"، فبعد حركة الشواف ذات النزوع القومي-الاقطاعي، في آذار 1959، بدأ الشيخ الاقطاعي يستعيد انفاسه نوعا ما، لأن سيطرة الإقطاع أو العشائرية في الريف لم تنته بتشريع القوانين، لأن هناك رابطة عشائرية قوية تنعش "سلطة الشيخ"، ولم يقرّوا بالهزيمة التي لحقتهم، وواصلو العمل من أجل استرجاع أراضيهم، وعدم تطبيق قانون الإصلاح الزراعي، الذي دفعهم للتحالف مع القوى القومية والدينية بأدوات مدروسة، على عكس الطبقة الفلاحية التي كانت انفعالية تحركها العاطفة، إلا أن (مظفر النواب) تحدى تلك "الردة" بأخذ الثأر من الاقطاعي، وتناولت هذه القصيدة علاقة وطيدة وواضحة بمجريات الصراع الذي خاضه الفلاح مع الاقطاعي، ليس بسرد وقائعه، وإنما يفجره بتفاصيل رمزية تمتلك داخل السباق الشعري أكثر من دلالة، صبت كلها في التعبير عن تطلعات هذه الأوساط الفلاحية وتوعيتها من الخطر الذي شكله الاقطاعي وأعوانه، وإعدادها للتصدي لهذا الخطر، فمن ثناياها تتعالى أصوات الانتصار على الاقطاع، والتحريض وتحريك الهمم، اذ انطلق هذا الابداع الشعري من موقع المواجهة، وأبرزت هموم الفلاحين، والنواب من الشعراء الذين انخرطوا في الثورة وشاركوا الفلاحين همومهم، ولهذه القصيدة أسوأ أثر في نفوس الاقطاعيين، فقد استهجنوها، وعابوا عليها، لكن "صويحب من يموت المنجل يداعي" بقيت صرخة مدوية تقض مضاجعهم: 

مَيْلَن، لا تنگطن، كحل فوگ الدم

مَيْلَن، وردة الخزّامة تنگط سَمْ

جرح صويحب، بعطابه، ما يلتم

لا تفرح ابدمنه .. لا يلگطاعي

صويحب من يموت المنجل يداعي

....

حاه، شوسع جرحك، ما يسده الثار

يصويحب، وحكَ الدم، ودمك حار

من بعدك، مناجل غيظ ايحصدن نار

شيل بيارغ الدم، فوگ يلساعي

صويحب من يموت المنجل يداعي

وبكل الأحوال، عبّرت القصائد عن الفرح بالثورة، والاعتزاز بالقانون، والفخر بالجمعيات الفلاحية، كما سجّلت التحديات التي واجهت هذا التحوّل. إن الشعر الشعبي لم يكن مجرد أداة احتفالية، بل كان وثيقةً توثق لحظة تحرير الإنسان من قيود الأرض والعبودية، وتؤرّخ بصدق لعصرٍ حلم فيه الفلاح بأن يكون شريكاُ لا تابعاً، ومواطناً لا عبداً.

تكشف لنا قراءة الشعر الشعبي في العهدين الملكي والجمهوري عن تحول جوهري في موقع الفلاح العراقي من الهامش إلى المتن، ومن العبودية إلى المواطنة. ففي العهد الملكي، كانت صورة الفلاح كما تعكسها القصائد مفعمة بالوجع والانكسار؛ حيث الجوع، والعراء، والمهانة، وسلب الجهد، والحرمان من أبسط الحقوق. الفلاح في تلك المرحلة كائن مسحوق، لا يُنادى باسمه، ولا يملك من الأرض شيئاً سوى الطين تحت أظافره. والشعر هنا كان صوت المظلومية.

أما في العهد الجمهوري، وخصوصاً بعد ثورة 14 تموز 1958، فقد تحوّلت نبرة الشعر الشعبي إلى التفاؤل والاحتفاء. صار الفلاح يتغنّى باسمه، يفتخر بانتمائه، ويتحدث عن "الجمعية" و"القانون" و"الإصلاح" بوصفها مكتسبات وجودية لا قانونية فحسب. تغيّرت مفرداته من “الطاغي” و”السركال” إلى ”الجمعيات الفلاحية” و”عيد الإصلاح” وغيرها.

رصد الشعر الشعبي الانتقال من علاقة استغلال رأسيّة بين السيّد والعبد، إلى علاقة أفقية بين المواطن والدولة. ومع أن التحولات لم تكن خالية من التحديات والارتدادات، إلا أن الفلاح، لأول مرة، امتلك لغته الخاصة ليُعرّف نفسه بها، لا كما يراه الإقطاع، بل كما يريد أن يكون: منتجاً، حرّاً، مشاركًا في رسم مصير البلاد. وبذلك يكون الشعر الشعبي ليس مجرد مرآة، بل وثيقة صلبة تبيّن كيف غيّرت السياسةُ جسدَ الأرض، وغيّر الفلاحُ صوتَه، فتحرر.