اخر الاخبار

الشخصية الوطنية والديمقراطية الاستاذ نجيب محيي الدين .. وداعا

ينعى الحزب الشيوعي العراقي الشخصية الوطنية والديمقراطية المرموقة الاستاذ نجيب محيي الدين، الذي اختطفه الموت عصر امس الخميس في عمان.

ولد الفقيد سنة 1925 في دلتاوة (الخالص) بمحافظة ديالى ونشأ في كنف أب متعلم وطني المشاعر. وبفضله عرف في صباه جريدة “الاهالي” و”جماعة الاهالي” الوطنية، التي انضم الى ركبها حين انبثق منها “الحزب الوطني الديمقراطي” سنة 1946 ومُنح اجازة العمل.

حينها بدأت مسيرة الفقيد السياسية الوطنية، التي تميزت منذ البداية بالعمل المخلص المشترك مع بقية الناشطين في ميادين الكفاح الوطني، خاصة منهم الشيوعيون، الذين نشأت له معهم وتقوّت بمرور السنين والعقود التالية، من موقعه في صفوف وقيادة الحزب الوطني الديمقراطي، علاقة خاصة راسخة ظل يديمها ويحرص عليها حتى آخر ايامه.

عُرف الفقيد الراحل بنشاطه الوطني المتفاني ابان الكفاح ضد النظام الملكي الرجعي، ثم خصوصا في سنوات ما بعد ثورة 14 تموز، حين عيّن مديرا عاما للتعليم الابتدائي من جانب، وانغمر من جانب آخر في النشاط المهني لجماهير المعلمين، حتى انتخب نقيبا للمعلمين دورتين متتاليتين. وخلال ذلك استطاعت النقابة تأمين العديد من المكتسبات المعيشية والحياتية الهامة للاسرة التعليمية العراقية الكبيرة.

وفي المراحل اللاحقة لم يبخل الفقيد بجهد في دعم نشاط القوى الوطنية والديمقراطية وعملها المنسق والموحد، وحتى الاسهام المباشر في ذلك كما فعل في الماضي القريب حين نهض بمهمة اول منسق للتيار الديمقراطي العراقي.

برحيل الاستاذ نجيب محيي الدين خسرنا عراقيا اصيلا وفيا ومتفانيا، انسانا اتسم على الدوام بالنزاهة والعفة والصدق والاستقامة، وتحمل ما تحمل من سجن واضطهاد بسبب مواقفه الوطنية بعد انقلاب شباط الاسود.

نتوجه في هذه المناسبة الحزينة بخالص المواساة الى اسرة الفقيد، والى رفاق دربه في الحزب الوطني الديمقراطي والوسط الديمقراطي الواسع، والى محبيه وذاكري افضاله الكثيرين داخل الوطن وخارجه.

وتبقى ذكرى الاستاذ نجيب محيي الدين حية عطرة في كل حين.

المكتب السياسي

للحزب الشيوعي العراقي

26 شباط 2021

********************************************************

نجيب محيي الدين اسم على مسمى

غادرنا مساء الخميس المنصرم 25/ 2/ 2021 في رحلته الأبدية رجلا تربويا جم الصفات الإنسانية الحميدة، ذلكم هو المربي والشخصية الوطنية الأستاذ نجيب محي الدين. أحب العراق وأهله، وطنياً صادقاً في أيمانه ومشاعره، عفيفاً زاهداً في حياته، لم يساوم ولم يتخاذل طيلة مسيرة حياته الاجتماعية والسياسية، مثل انموذجا نادراً للمخلصين في حب اوطانهم. ترعرع فقيدنا الغالي وسط اسرة متوسطة الحال برعاية أبوين اهتما بتربيته، وكان والده رجلاً متنوراً أولى ولده الاهتمام خلال مراحل دراسته.

عرفته المؤسسة التربوية تلميذاً نجيباً في مراحل دراسته، وتأثر بجيل المعلمين في ثلاثينات واربعينيات القرن الماضي، اذ وجد فيهم الحرص والإرشاد التربوي، وبسبب هذه البدايات استهوته مهنة التعليم متأثرا بسلوكهم. توجه بعد اكمال المرحلة الثانوية في مدينته بعقوبة الى الدراسة في دار المعلمين العالية في بغداد ليتخرج منها في نهاية الاربعينيات من القرن العشرين، وبعد تخرجه مارس العمل مدرساً في حقل التعليم الثانوي وتدرج في مواقع إدارية قيادية فيه. بعد ثورة 14 تموز 1958 تم انتخابه نقيباً للمعلمين في العراق لسمعته الطيبة وسلوكه الابوي القويم.

بسبب توجهاته الوطنية واطلاعه على الأفكار التقدمية لرجال الفكر والسياسة خلال مراحل دراسته توجه للعمل في حقل السياسة بالارتباط بالحزب الوطني الديمقراطي عام 1946 العام الذي شهد أول مرة اجازة عدد من الأحزاب السياسية اليسارية والقومية في حكومة رئيس الوزراء آنداك المرحوم توفيق السويدي.

ظل الفقيد وفياً لأفكار الحزب الوطنية التقدمية التي تبناها حتى يوم وفاته. اهتم كثيراً بالعلاقات الاجتماعية في حياته، ولهذا عرفته المنتديات الثقافية والسياسية في بغداد والعاصمة الأردنية عمان خلال السنوات الأخيرة من حياته.

كان يتابع يومياً رغم اعتلال صحته اخبار العراق داعياً أصدقاءه والشخصيات الوطنية الى العمل بروح الجماعة لتوحيد الصف بأفق وطني يسمو على الخلافات الجانبية، بهدف خدمة بلدنا الذي يواجه تحدياً خطيراً على مستقبله ومستقبل أبنائه.

شكل رحيله خسارة كبيرة لحركة السلم والتيار الاجتماعي الديمقراطي، فقد كان أحد أعمدتها المبرزين، مناضلاً وطنياً وأباً لجيل الشباب الذين تعرفوا اليه وصديقاً وفياً لمعاصريه.

رحمك الله يا أبا سعد... نم مطمئناً فشعلة الحق التي حملتها لا تنطفئ.

الأمين العام للتيار الاجتماعي الديمقراطي 

أ.د. علي كاظم الرفيعي        

*****************************

معلم الأجيال العتيد نجيب محيي الدين... وداعا

عبدالكريم الكشفي*

فقدت الاوساط الثقافية والسياسية والديمقراطية في الاسبوع الماضي، علما كبيرا من أعلامها. انه الشخصية الديالية وابن الخالص الاستاذ نجيب محيي الدين، أول نقيب للمعلمين في عهد الزعيم الوطني عبدالكريم قاسم، والقيادي البارز في الحزب الوطني الديمقراطي، ونائب رئيس المجلس السلم والتضامن في العراق. هذا السياسي الذي عايش الاحداث العراقية الجسام طوال ٧٥ عاما، عرف بنضاله العتيد وبوطنيته العالية ومهنيته الكبيرة.

ولد نجيب محيي الدين عام ١٩٢٥م بقضاء الخالص في محافظة ديالى، وكان والده مثقفا تخرج من المدارس الرشيدة، وكان يواظب على قراءة المجلات والصحف، كما انه كان يمتلك مكتبة صغيرة في بيته. لقد كان محي الدين شاهدا على زمن شهد نضالا مريرا ضد الاحتلال البريطاني وضد القوى الرجعية والاقطاع البغيض، لكن مع الاسف ضاعت ملامح ذلك الزمن الجميل وغابت خصال اهله الطيبين المعروفين بالولاء للوطن والشعب، وبالايادي البيضاء العفيفة والنزاهة التي لا تأكل السحت، ولا تعرف الطائفية البغيضة والعشائرية المقيتة.

ففي العام ١٩٤٣م اخذ يتردد على جريدة (صوت الاهالي)، وأخذ ينشر فيها ابرز افكاره النضالية، وكانت بوابته للدخول في الحزب الوطني الديمقراطي الذي يرأسه كامل الجادرجي بعد أن آمن بمبادئ الوطنية والديمقراطية. وفي عام ١٩٥٣م كان احد دعاة تأسيس نقابة المعلمين ايام العهد الملكي في العراق. وكانت اكثر اللقاءات والاجتماعات بينه وبين المعلمين الداعين لتأسيس النقابة تعقد في بيته، وعندما تفجرت ثورة ١٤ تموز الخالدة، جرت انتخابات الهيئة الادارية لنقابة المعلمين للدورة الاولى في شباط ١٩٥٩م، انتخب محي الدين النقيب الاول المرحوم الدكتور فيصل السامر نائبا له. وحقق خلالها انجازات كبيرة جدا للمعلمين، منها التأمين الصحي للمعلمين، وتوزيع قطع أراضي بأثمان زهيدة، فقد انجز بمؤازرة صديقه محمد حديد وزير المالية بتخصيص أراضٍ للمعلمين، بلغ عددها اكثر من الف قطعة موزعة بين الكرخ والرصافة وبأجور زهيدة. كما فتح باب الترشيح لاكمال الدراسات العليا، وإنجاز سلف المعلمين للبناء والسفر خارج العراق وغيرها، فنال حبهم واحترامهم والى الان الاحياء منهم يذكر تلك الإنجازات الكبيرة، كما تبوأ منصب مدير عام التعليم الابتدائي في وزارة المعارف. وفي شباط الاسود عام ١٩٦٣م عندما سيطر غربان البعث من الحرس القومي المجرم على السلطة، تعرض للاعتقال والتعذيب ومن ثم محاكمته، وبعد سقوط حكومة البعث بقي محيي الدين رهن الاعتقال لفترة قصيرة، ثم اطلق سراحه بعد اعادة التحقيق معه في عهد عارف، وكان يرأس اللجنة التحقيقية التي اطلقت سراحه القاضي والروائي الكبير فؤاد التكرلي، بعدها عاش فترة خارج العراق، وعند سقوط الصنم عام ٢٠٠٣م عاد الى الوطن، وكان أحد مؤسسي التيار الديمقراطي. لقد كان ذو نشاط دؤوب متميز، يحظى بسمعة وطنية طيبة نادرة وتحلى بروح الديمقراطية، والتواضع. يجيد أدب الأصغاء والحوار. يمتلك مزايا عظيمة لا توجد عند ساسة اليوم من عمار الجيوب الذين جعلوا من انفسهم أوصياء على هذا الشعب المبتلى بهم ظلما...

أستاذنا الكبير المودع.. لقد عشت في محاجر عيوننا وشغاف قلوبنا، لقد كنت بيننا جسدا وستبقى بيننا روحا، نمد اليك اشرعة التواصل لتحيا من جديد.. سلام عليك انسانا تحمل كل معاني الإنسانية.. وسلام عليك راحلا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مدير عام تربية محافظة ديالى السابق

 **************************************************************************************************************

في رثاء نجيب محيي الدين

ياسين طه حافظ

اخي، استاذي، قدوتي الوطنية،

صديق العمر من 1960 - 2021، غادرتناّ!

رحلت ولستُ قربك او في خدمتك.

رحلت محتفظاً بنقائك كاملاً، بوطنيتك الهادئة السمحة التي تمنيتها دائماً للجميع!

قبل ثلاثة اسابيع، تأخر ردك على اتصالي، على غير عادتك. ثم اتصلت قلت لي:

«ابا طرفة لم اكن استطيع الكلام. شعرت الان اني قد استطيع..»

بعد اسبوع عاودت اتصالي لأطمئن، لاجواب بعد يوم، يومين، لا جواب.

وضعت يدي من خوف على قلبي! علمت اني سأبقى بلا رد والى الابد!

اخي، صديق العمر:

من يعرفك جيدا، يعرف حجم الخسارة!

 ***************************************************************************************************************

رواها الراحل نجيب محيي الدين

صفحات مطوية من تاريخ العراق في عهد الزعيم

د. حميد حسون نهاي

خسر الوسط التربوي والتعليمي في العراق مساء يوم الخميس 25 شباط 2021 قامة علمية شامخة متمثلة برحيل الأستاذ الكبير نجيب محي الدين, إذ كان الراحل نقيباً للمعلمين في العهد الجمهوري الأول, وقد كان له خدمات جليلة استمرت لعقود طويلة من الزمن, لا سيما في قطاعيّ التربية والتعليم, ولأننا اليوم محزونون على فقدهِ وجدنا من السلوى لنا ولجميع قراء جريدة “طريق الشعب” الغراء نشر المقابلة الشخصية التي أجريتها معه قبل ثلاث سنوات تقريباً, وبرحيلهِ ندعو الله سبحانه وتعالى أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يسكنه فسيح جناته, وأن يلهم أهله وطلبته ومحبيه عظيم الأجر والثواب وجميل الصبر والسلوان.. إنه سميع مجيب الدعاء ((إنا لله وإنا اليه راجعون)).

لا أُبالغ عندما أقول إن صباح يوم 11 شباط 2018 كان صباحاً مميزاً, وكيف لا يكون كذلك وانا التقي بشخصيةٍ تميزت بالتوازن والاعتدال والموضوعية في حديثها, والإخلاص والتفاني والمهنية والنزاهة في أداء عملها, وحب العراق والولاء له مقياس تقييمها للشخصيات التي عاصرتها, لذلك رأينا من المفيد جداً, نشر أهم ما جاء في هذه المقابلة الشخصية التي أجريتها مع نقيب المعلمين الثاني في حقبة الزعيم عبد الكريم قاسم بعد الدكتور فيصل السامر, ليتحدث عن ذكرياته, وأبرز محطاته السياسية والوظيفية, بالإضافة إلى تقييمهِ لحقبة العهد الملكي بوصفهِ من مواليد لواء ديالى عام 1925, وبذلك يكون شاهد عيان على كثير من الأحداث السياسية والاجتماعية التي عاصرها.

من هذا المنطلق, بدأ اللقاء مع الأستاذ نجيب محي الدين, ليتحدث عن التعليم في العهد الملكي, فقال إن محاباة أبناء الذوات في التعليم, أو في حالات الغش أثناء الامتحانات كانت قليلة جداً, ولم تكن ظاهرة حينها, لأن بعض الشخصيات كانت تعتد بنفسها وتتمتع بأخلاق عالية, وتقف بل وتتحدى بعض المسؤولين الذين يسعون إلى انقاذ أبنائهم من العقاب أثناء حالات الغش, يقول كنت في حقبة الخمسينيات مديراً لإحدى الثانويات في بعقوبة, وكنت رهن إشارة مدير المعارف العام, الذي أوكل إليّ مهمة إدارة الامتحانات الخارجية في إحدى ثانويات لواء كركوك, وفي ثاني أو ثالث أيام الامتحانات, لاحظت نجل متصرف لواء كركوك مصطفى اليعقوبي يمتحن خارجيا, وكان يحاول الغش, وكما هي طريقتي المعتادة ابدأ بالتنبيه ثم التحذير وآخرها الاخراج من القاعة الامتحانية, وقد كان معروف عن هذا الطالب بأنه متأخر دراسياً وجاء ليمتحن خارجيا, وبعد تنبيهه وتحذيره لأكثر من مرة, تبين أن الطالب كان فاشلاً, لأنه حاول أن يُظهر بأنه نجل المتصرف, الأمر الذي دفعني إلى سحب الدفتر الامتحاني منه وإخراجه من القاعة, وبعد الامتحان أبلغت مدير المركز الامتحاني بذلك فامتعض وقال ماذا فعلت؟ ماذا تقول لوالدهِ المتصرف؟ وللإنصاف أقول, لم يبدِ المتصرف أية ردة فعل, أما ابنه فكان بإمكانه أداء بقية الامتحانات لكنه لم يحضر, وفيما يتعلق بيّ, فقد تم تكريمي وذلك بنقلي إلى وظيفة أعلى وأرقى, وهي معاون مدير دار المعلمين العالية عام 1950.  

وفيما يخص قبول الطلاب في المدارس, فقد كانت أغلبها تتم على أساس مهني, وتكون على شكل حصص لكل لواء, حسب النسب السكانية, منها على سبيل المثال تخصيص 120 مقعداً للقبول في دار المعلمين العالية, تتم المنافسة بين المتقدمين ويتم قبول أصحاب الدرجات العالية, وبالنسبة لمدارس البنات فقد كانت قليلة جداً وغير منتشرة, ومعظم الألوية ليس فيها مدرسة واحدة للبنات, ويمكن القول إن نسبة قبول البنات كانت تعادل لواء في كل العراق ويتم القبول على أساس المعدلات العالية أيضاً. ومن المفيد الاشارة إلى ان المدرسة المأمونية كانت أول مدرسة في العراق الملكي, وقد كان الملك فيصل الاول راغباً في أن يكون معلماً فيها, في حين كانت الإعدادية المركزية أول ثانوية في العهد الملكي, لأنها امتداد للعهد العثماني وكانت تسمى حينها “إعدادي ملكي”, للتفريق بينها وبين المدرسة العسكرية التي كان اسمها “إعدادي عسكري”, وقد كانت هنالك مدرسة متوسطة تسمى حينها “إعدادي رشدي”.

أما البعثات الدراسية خارج العراق, فقد كانت تتم على وفق معايير موضوعية وتنافس بين الطلاب, ليحصل أعلى المتقدمين على فرصة الدراسة خارج العراق, وعلى الرغم من ذلك كله, فهي لا تخلو من المحسوبيات ومحاباة الأقارب والأصهار لا سيما عند انسحاب أو وفاة أحد المتقدمين, الأمر الذي يجعل بعض المقاعد شاغرة, ولكن هذه الأمور كانت نادرة وقليلة وغير مؤثرة, لان أبناء  الطبقة الوسطى كان من الممكن قبولهم في البعثات إلى جانب أبناء الذوات. 

وفي الموضوع ذاته, أشار الأستاذ الراحل نجيب محي الدين إلى ان أول بعثة دراسية إلى الخارج كانت في عام 1921, وقد تكونت من تسعة أشخاص, خمسة منهم درسوا التربية والزراعة والاقتصاد والكيمياء في الجامعة الأمريكية في بيروت, واثنان درسا اللغة العربية في القاهرة, واثنان أيضاً درسا الطب في انكلترا, وقد شملت هذه البعثة طوائف العراق كافة, لكنها اثارت امتعاض بعضهم لاسيما اليهود والمسيحيين الذين اعترضوا وقالوا هناك أسس موضوعية يجب الأخذ بها, منها اللغة الانكليزية التي يجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار, لا سيما وان لليهود والمسيحيين مدارس أهلية تقوم بتدريس اللغة الانكليزية, لذلك رأوا انفسهم أكثر إجادة من المسلمين في هذا الجانب.

وتجدر الاشارة إلى ان الملك فيصل الأول لم يكن منحازاً لطائفة معينة, لذلك وبمجرد انتقاد هذه البعثة من الإعلام قام بتكليف رئيس الديوان الملكي رستم حيدر وهو من الشيعة لمتابعة الموضوع, وفعلاً أرسل رستم حيدر كتاباً إلى وزارة المعارف يسأل فيه عن آلية اختيار هؤلاء الأشخاص, وقد كان الجواب ان الاختيار كان على وفق اسس ومعايير موضوعية, منها الكفاءة وحُسن السيرة وعدم القدرة المالية أي من أسر غير ميسورة, لأن الأسر الميسورة تقوم بتدريس أبنائها على حسابها الخاص, وقد قامت وزارة المعارف بتعريف الأشخاص التسعة واحداً واحداً, وكانوا جميعاً ممن تنطبق عليهم الشروط, ولم تعتمد مسألة النسبة السكانية, واتذكر ان أحدهم كان يهودياً اسمه “جاك عبودي”, يعمل أستاذا في كلية الطب, ومختصا بمرض الأعصاب، ويُعد من أفضل الاطباء العراقيين علماً وسلوكاً.

وبما أن الحديث مع الأستاذ نجيب محي الدين يمثل شهادة تاريخية عن العهد الملكي الذي عاش فيه أكثر من ثلاثة عقود, انتهزنا الفرصة لمعرفة تقيمه للنظام السياسي آنذاك, والدستور والانتخابات, فقال, للأسف يوجد الآن توّجه لتبييض سيرة النظام الملكي, وكأنه نظام لا توجد فيه أي شائبة, لكن اقول إن النظام الملكي فيه من الايجابيات, لكن طيلة العهد الملكي (1921 - 1958), لا توجد انتخابات حرة نزيهة ما عدا انتخابات عام 1954, واستمرت ليوم واحد فقط واُجهضت من قبل نوري السعيد, حيث كانت الانتخابات تتم بالتعيين وليس الانتخاب, وأكثر من ثلثي عمر العهد الملكي كانت فيه أحكام عرفية في معظم أجزاء البلد, ولم تشكل وزارة إلا من خلال التوافقات بين الشخصيات المتنفذة والموالون لهم, والولاء كان له أهمية بالغة في تسنم المواقع, فالبعض يحسب على الإنكليز والبعض الاخر يحسب على البلاط وآخر على نوري السعيد، وهكذا كانت الولاءات لها ثقل كبير بالإضافة إلى وجود المتملقين, لكن المسؤول يختار الموالي الكفوء في معظم الاوقات.

على هذا الأساس يبدأ المتهافتون على المواقع والمناصب لا سيما في أوقات الانتخابات لتقديم فروض الطاعة للمسؤولين الكبار, وكان معظم الذين يصلون الى المواقع الحكومية المهمة من الموالين الذين بإمكان المسؤول الكبير الاستفادة منهم لأن لهم ثقلا اجتماعيا أو لديهم لوذعية في الخطابة أو ما شابه.

نتيجة لكل ذلك حدثت طرائف في بعض الانتخابات منها على سبيل المثال, يفوز نائب معين من دون أن يرشح نفسه أو هو لا يعلم بالترشيح اصلاً, أو يفوز شخص معين في أكثر من لواء في وقت واحد, والامانة تقتضي القول إن المركز الاجتماعي والسياسي للعائلة كان له دور كبير، وهذه حقيقة شاخصة في العهد الملكي, لأن فيه من نقاط القوة الشيء الكثير الذي يمكن الاستفادة منه. كان في دستور عام 1925 نصوص ديمقراطية وكان همّ المعارضة وشغلها الشاغل هو المطالبة بتطبيق نصوص الدستور, لكن لا أحد يسمع, ولو كان هناك تطبيق للدستور والديمقراطية لكانت الانتخابات في تحسن مستمر والدورات البرلمانية المتعاقبة تكون بشكلٍ أفضل, لكن ما حدث كان العكس تماماً, بحيث كانت آخر دورة برلمانية يسمى مجلسها بـ “مجلس التزكية”.

مما سبق يبدو واضحاً, أن وجود الأصهار والأقارب في المناصب كان نتاجا طبيعيا وأمرا واقعا نتيجة غياب النظام الديمقراطي الصحيح الذي يعتمد على الكفاءة والقدرة بالإضافة إلى ان ذهنية المجتمع العراقي آنذاك كانت تتقبل هذه الشخصيات التي تنتمي إلى أسر ذات وزن كبير ومقبولة اجتماعياً، وكان معظمهم محترمين في الوسط العراقي ومن هؤلاء السيد رشدي عبد الهادي الجلبي الذي أصبح وزيراً لأكثر من مرة في عقد الخمسينيات, وهو بالرغم من انه خريج الجامعة الامريكية في بيروت, لكن بالمقاييس الموضوعية والكفاءة التي تحتاجها الوزارة ليس له نصيب في هذا المضمون, لا بل لا يأتيه دور لوجود الأكفأ منه, لكن لأن والده السيد عبد الهادي الجلبي الذي كان نائباً ووزيراً فضلاً عن انه أحد أبرز وجهاء وأعيان بغداد لاسيما في مدينة الكاظمية المقدسة أعطي هذا المنصب.

وفي حديثنا عن الأحزاب السياسية تطرق الأستاذ نجيب محي الدين عن انتمائهِ إلى الحزب الوطني الديمقراطي عند تأسيسه عام 1946, حينما كان في المرحلة الثالثة في دار المعلمين العالية, وعن رئيس الحزب كامل الجادرجي قال: “لم يظهر منافس لـ (كامل الجادرجي) في صفوف الحزب ولأنه يمتلك المؤهلات والمكانة بقي مسيطراً على الحزب حتى عام 1961, ولو كانت هناك زعامات أقوى منه لوصلت إلى رئاسة الحزب, حتى الذين كانوا بالضد من كامل الجادرجي  كانوا ينتقدونه في مجالسهم الخاصة فقط, ولم يكونوا منافسين له وفشلوا في إيجاد بديل عنه. وينطبق الأمر نفسه, على عبد الفتاح ابراهيم رئيس حزب الاتحاد الوطني, وعزيز شريف رئيس حزب الشعب, ومحمد مهدي كبة رئيس حزب الاستقلال, الأحزاب السياسية بشكلٍ عام كانت تحتاج إلى الديمقراطية, لأن زعماءها استحوذوا على رئاستها لفترات طويلة, لكن عدم ظهور زعامات حزبية تنافس القادة, أسهم في بقائهم هذه المرحلة الطويلة, والحقيقة المرة, إن معظم طاقم العهد الملكي غير مؤمنين بالديمقراطية والحياة الحزبية, ومنهم توفيق السويدي الذي ترك رئاسة “حزب الاحرار” الذي اسسه إلى سعد صالح وهو أقرب الناس إلى الديمقراطية وكان شخصية جديرة بالتقدير والاحترام.

أما محمود أحمد السيد وعبد القادر إسماعيل وعبد الفتاح ابراهيم فكانوا أقارب, ومن القلة المعدودة المثقفة حينها, لأنهم من حملة الشهادات, والأخير كان قدر أُرسل في ثالث بعثة علمية, ليتخرج من الجامعة الامريكية في بيروت, أما عبد القادر إسماعيل بالإضافة إلى حسين جميل فقد تخرجا من كلية الحقوق, وبالتالي جمعتهم الثقافة واستوعبتهم جماعة الاهالي, وقد حاولوا تأسيس حزب لكنهم لم يفلحوا, والنتيجة انتمى عبد القادر إسماعيل إلى الحزب الشيوعي, وتوزع الآخرون على مدارس فكرية شتى.

وعن انضمام عبود الشالجي للحزب الوطني الديمقراطي قال الأستاذ نجيب محي الدين: كان لـ (عبود الشالجي) علاقة شخصية وصداقة مع حسين جميل, والشالجي اسم كبير في الوسط الاجتماعي، لأنه مؤرخ وتراثي ولغوي, وقد كان إضافة للحزب عندما انتمى اليه لأن له ثقله ووجوده قد أعطى تنوعا للحزب, وان الحزب لا يقتصر على المثقفين واليساريين في الوسط السياسي, وقد انسحب من الحزب مع عبد الكريم الازري لعدم استيعابهم الفكر الماركسي والاخير (عبد الكريم الازري) لم يصبح وزيراً لو لم ينسحب من الحزب الوطني الديمقراطي. وفي الواقع ان الحزب الوطني الديمقراطي لم يكن حزباً شيوعياً لكنه اقتبس أفكاراً ماركسية, وأن تسمية حسين جميل للحزب بأنه “يسار الوسط” كلام سليم.