اخر الاخبار

في 17 تموز الجاري، افتتح رسميا في مدينة كربلاء مستشفى خاص جديد تابع للمؤسسة الدينية، تقع بنايته الانيقة الضخمة وسط منطقة سكنية تعرف بـ “الإسكان”. وهي منطقة باتت اليوم مزدحمة بعيادات الأطباء الخاصة، بعد أن تحولت منازلها إلى مجمعات طبية ومختبرات ومراكز للأشعة والسونار.

ويعج الشارع الذي تطل عليه المستشفى والعيادات بالمرضى يوميا. وبات من الصعب الحصول على مكان لوقوف السيارة بسبب شدة الزحام!

أين المستشفيات الحكومية؟

السؤال: أما من دور تضطلع به المستشفيات الحكومية ازاء الحشود الغفيرة من المرضى، التي نراها بأم اعيننا تتنقل مساء بين العيادات الخاصة، التي يديرها أطباء يعملون صباحا في المؤسسات الحكومية؟! أليس ضعف الرعاية وشح العلاج في هذه المؤسسات، هو ما يجبر المواطنين على اللجوء الى هذه العياداتـ أملا بالحصول على خدمة أفضل؟

الحديث طويل ومتشعب حول واقع النظام الصحي في بلدنا، الذي كان يعد على مدى عقود طويلة حتى نهاية سبعينيات القرن الماضي، من البلدان الرائدة على مستوى دول العالم الثالث في تطور نظامه الصحي من حيث الخدمات. لكن بعد الحروب العبثية التي شنها النظام الدكتاتوري المباد، وما تلاها من انهيار للدولة تحت سلطة الاحتلال، ومع انهيار عموم الخدمات في ظل حكم المحاصصة والفساد، شهد نظامنا الصحي تراجعا خطيرا ومخيفا، وصار يعانى أزمات تؤدي إلى شبه انهيار لمؤسساته كافة.

المستشفى السابع

“مستشفى الوائلي” في كربلاء هو سابع المستشفيات الأهلية التابعة إلى العتبتين الحسينية والعباسية في المدينة. وهو يضم قسمين: الأول لزراعة نخاع العظم والآخر للنسائية والتوليد، ويتسع لـ 212 سريرا. وإلى جانبه هناك “مستشفى الكفيل” بسعة 200 سرير، و”مستشفى زين العابدين” بسعة 138 سريرا، و”مستشفى الوارث للأمراض السرطانية”، و”المركز التخصصي لجراحة العيون”، و”مستشفى خاتم الأنبياء”، و”مستشفى الحجة” الخيري الذي يضم 100 سرير، فضلا عن “مستشفى العباس” ذي السعة السريرية المحدودة، وهو مقام منذ زمن النظام المباد.

ولعل المستشفى الوحيد الذي يقدم خدمات مجانية بين المستشفيات التابعة للعتبتين، هو “مستشفى السفير”   الذي تنتسب أغلب كوادره إلى دائرة صحة كربلاء.  

كل المستشفيات المذكورة تتقاضى مبالغ مالية طائلة مقابل ما تقدمه من خدمات، وهناك تنافس في ما بينها كونها تضم أجهزة متطورة، وتقدم خدمات فندقية “خمسة نجوم”، وتستضيف أطباء من لبنان وإيران والهند وامريكا. فيما ملاكاتها الصحية من سوريا ولبنان.

خدمات باهضة الثمن

ويبدو أن التفكير في إنشاء هذه المستشفيات منصب على نقطة محورية واحدة بالنسبة لأصحاب رؤوس الأموال. فلكي لا يذهب المواطن الى الهند وإيران ولبنان للعلاج، يبني له هؤلاء مؤسسات صحية وفق المواصفات العالمية، ويجنبوه مخاطر السفر والابتزاز والاحتيال في الخارج.

لكن السؤال المهم هنا هو: من المستفيد فعلا من هذه الخدمة الطبية باهظة الثمن؟ بالتأكيد هو فقط القادرعلى دفع هذا الثمن الباهظ!

قبل أيام طلب مني صديق في السويد متابعة حالة شقيقته المريضة الراقدة في “مستشفى الحجة”. فقمت بزيارتها، ووجدتها في قسم الرعاية المركزة، الذي يستوفي منها 400 ألف دينار مقابل رقودها ليلة واحدة !

سألت الطبيب عن حالتها، فأجابني بأن “وضعها صعب جدا. اذا رفعنا عنها أجهزة الإنعاش فستموت”! 

عدت فنصحت أقرباء المريضة بنقلها إلى مستشفى عام، بعد أن تراكمت عليهم ديون العلاج، والتي وصلت إلى 5 ملايين دينار، يطالبهم بها قسم الحسابات في المستشفى وهم غير قادرين على التسديد!

وفعلا اتصل ذوو المريضة بالمستشفى العام، لكن ما أعاق نقل مريضتهم إلى هذا المستشفى، هو تأخر تأمين سرير شاغر لها، وفي النهاية توفيت المريضة!

واقع حكومي بائس

أقول: عندما لا تستطيع الحكومة الحفاظ على حياة مواطنيها، فسيعني ذلك الخراب عينه. فالمؤسسة الدينية في كربلاء استطاعت بناء 8 مستشفيات في زمن قياسي، منذ عام 2004 إلى الآن، في حين عجزت الحكومة عن بناء مستشفى واحد في المحافظة طيلة هذه الفترة، سوى “المستشفى التركي” الذي افتتح ولم يكن بكامل طاقته. وما يزيد هذا الدمار دمارا، تعمق الفساد المالي والإداري في هذه المفاصل الحكومية المهمة.

والمصيبة أنه حتى اليوم لم يحدد دور وشكل النظام الصحي في العراق، ولم توضع سياسات واستراتيجيات وخطط عمل قصيرة وطويلة الأمد كفيلة بتقديم خدمات للمواطنين ذات جودة عالية وبكلفة قليلة.

من للفقير والكادح؟

ومن غير المعقول ايضا ان البرلمان الموقر لم يستطع حتى اليوم سن قانون للضمان الصحي. فمن للفقير وللعامل والفلاح والكادح ولذوي الدخل المحدود؟ من لهؤلاء عندما يقفون أمام الطبيب فيطالبهم بإجراء فحوص عاجلة، من رنين ومفراس وغيرها، ثم ينتظرون شهرا كاملا أو أكثر حتى يصلهم الدور في المؤسسات الصحية الحكومية؟!

أو أن يطلب الطبيب من المريض إجراء فحوص مختبرية غير متوفرة في المستشفى الحكومي، فيضطر إلى اللجوء للمختبرات الخاصة ليجبر على دفع مبالغ طائلة. أما إذا احتاج الى إجراء عملية جراحية في مستشفى أهلي، فعليه تأمين مبلغ مالي يعجز في الغالب عن تأمينه!

من لهؤلاء؟ وأين يذهب المبتلون بالأمراض المزمنة في ظل غلاء الأدوية بعد انهيار العيادات الطبية الشعبية، التي كانت تعين الفقراء في توفير هذه الأدوية؟ 

السبيل لتحسين الخدمات

نحن اليوم امام واقع صحي صعب ويحتاج إلى معالجات عاجلة، أهمها تشخيص نقاط الضعف والقوة في شكل وبنية النظام الصحي، وانتشال هذا النظام من واقعه استنادا إلى بيانات إحصائية وخطط استراتيجية وطنية، تبدأ من تقوية الإدارة ووضع خطة لإعادة إعمار المؤسسات الصحية وتدريب كوادرها وبناء قدراتها، وتأمين التخصيصات المالية الضرورية لتنفيذ ذلك وغيره.. ولا سبيل غير هذا لتحسين الخدمات الصحية.

عرض مقالات: