منذ زمن بعيد، ارتبط الشيوعيون العراقيون بتاريخ المقاومة والنضال والاستبسال والاستشهاد في بلادنا وادي الرافدين، ودرجوا وأصدقاؤهم على الاحتفاء بذكريات استشهاد رفاقهم وأحبتهم، من الذين مضوا بسلاء في طريق السمو والفخر والفداء بالنفس، طريق التضحية والبذل لأنبل الغايات صوب سعادة الناس وحرية الشعب.. وفي كل مدن الوطن وقراه وقصباته، وفي كل بلدان العالم ومدنه التي يقطن ويعيش فيها العراقيون، يتجلى الاحتفاء والاستذكار لهذه المناسبة 14 شباط يوم الشهيد الشيوعي، بصور مختلفة تتنوع بين اقامة الاحتفالات والفعاليات، وزيارة عائلات الشهداء وتقديم الورود لهم، وزيارة قبور الشهداء ووضع أكاليل الورود والأزاهير. وأيضا عبر استذكار مثل ومآثر الشهداء والكتابة عنهم وعن صور الصمود والبسالة التي سطروها في السجون والمعتقلات، وفي الكفاح المسلح في جبال وسهول كوردستان العراق، وفي سوح النضال السري، وكل أماكن النضال المختلفة.. هنا في السويد الذي تقيم في مدنه المختلفة الكثير من العائلات العراقية التي فقدت أبناء وأحبة لها في سوح النضال الشيوعي والوطني، ومن كل الطيف العراقي، يكون الاحتفاء بيوم الشهيد الشيوعي في 14 شباط، مهيباً يليق بمكانة ورمزية مناسبة استذكار الشهداء..

 

في مدينة أوبسالا السويدية يقيم الرفيق خالد داود الجنابي مع عائلته، وكان قد قدم للسويد بعد سنوات طويلة من النضال في حركة الأنصار الشيوعيين في جبال كوردستان العراق. هنا في هذه المدينة يعمل الرفيق خالد سائق سيارة أجرة (تاكسي)... يتحدث عن والده الشهيد داود الجنابي، القائد العسكري المعروف، مستذكراً تلك اللحظات والأيام:

- كنا نسكن في منطقة بغداد الجديدة في مدينة بغداد، وكان الوالد أحد منتسبي الجيش العراقي ومكلف بمهمات مختلفة وآخرها قيادة الفرقة الثانية التي كان مقرها محافظة كركوك..

وبسبب الوشاية وتوجيه التهمة للوالد بحجة حديث منسوب له يدعو لاستلام الشيوعيين للسلطة وتنحية الزعيم عبد الكريم قاسم، فقد زج بالوالد في السجن لمدة عامين في عهد الجمهورية وثورة 14 تموز، وقد أطلق سراحه قبل فترة قصيرة من انتكاسة الثورة في 8 شباط المشؤوم، ولم تتم اعادته ثانية للجيش.. بعد المضايقات اضطررنا لترك منطقة سكننا في بغداد الجديدة، لنعيش في دار أحد الأقارب في الكرادة. في هذه الدار، نهار يوم 9 شباط 1963، داهمتنا قوة عسكرية مدججة بالسلاح لتعتقل الوالد ولم تهمله حتى من فرصة استبدال ملابسه المنزلية ولتأخذه نحو جهة مجهولة.. ولم تمض أيام قليلة وكنت عائدا من مدرستي الابتدائية ولم يكن عمري يتجاوز العاشرة بعد، حيث سمعت بكاء وصراخ الجميع في دارنا..

 لم أفهم الأمر أول الأمر، ثم علمت لاحقاً بأن الأوباش قد قتلوا الوالد مع العشرات من رفاقه...

كان الحاكم العسكري رشيد مصلح، قد أعلن عبر الراديو عن تنفيذ أحكام الاعدام بمجموعة من القادة الشيوعيين والوطنيين من العسكريين والمدنيين.

ولم تنفع محاولات العائلة للحصول على معلومات عن الوالد الذي تم تغييبه ولم نستلم جثمانه حتى اليوم... بعد اعدام الوالد عشنا أياماً صعبة وعسيرة، خصوصاً ونحن عائلة كبيرة، وأصغرنا أخي سعد الذي لم يتجاوز الثالثة من عمره حينها.

قبل اعتقاله واستشهاده، كان الوالد يستقبل في دارنا العديد من الشخصيات الوطنية من العسكريين والمدنيين، ومنهم بالتأكيد شخصيات شيوعية، وعلمت لاحقاً ان من بينهم المناضل الوطني والعسكري الشيوعي سليمان يوسف اسطيفان (أبو عامل) الذي ارتبط الوالد به باعتباره صلته الحزبية المباشرة بالحزب الشيوعي العراقي..

ان استذكار الشهداء هو بمثابة الوفاء لهم ولمثلهم ومآثرهم، وهو التقدير لمواقفهم وتخليدها، ومن أجل عدم نسيان ذلك التأريخ المجيد، وهو بالتالي يمثل فصولاً من تأريخ الحزب..

************

الرفيق محمد حسين حيدر (أبو نورس) يستذكر تفاصيل وذكريات استشهاد أخيه الشهيد: صاحب حسين حيدر:

- عمل الشهيد في التنظيم الحزبي في هيئة عمالية لتنظيمات مدينتي الكاظمية والحرية، وكانت له نشاطات في المسرح العمالي وشارك بالتمثيل المسرحي في منطقتي الحرية والكاظمية. كما كانت له اهتمامات ثقافية ونشاط جماهيري في اوساط الشبيبة.

في السنوات الاخيرة قبل اعتقاله، وخصوصاً في عامي ٧٨ و٧٩، كان يدير مع المرحوم الوالد محلاً في بغداد - سوق الصفافير، لبيع مفروشات السجاد (زوالي) والأعمال اليدوية التراثية العراقية. وبسبب الهجمة الوحشية على الحزب من قبل النظام الدكتاتوري للبعث الفاشي، ترك العمل، واضطر للاختفاء وانقطعت اخباره. وبعد سقوط النظام عثر على قائمة صادرة من مديرية امن الكاظمية الشعبة الخامسة، وفيها أسماء 62 شهيدا وشهيدة من مدينة الحرية والكاظمية، وكان اسمه ضمن الأسماء، حيث تم اعدامة وتغيبه نهاية 1982 وبداية 1983، ولم نعثر على جثمان الشهيد المفقود.

***********

الرفيق ماجد لفتة العبيدي (أبو هديل)، تعود به الذكريات مع حلول ذكرى يوم الشهيد الشيوعي، مستذكرا، أخاه الشهيد الشيوعي:

 علي لفتة العبيدي، ويكتب:

- ولد الشهيد على لفته العبيدي في مدينة الناصرية مركز محافظة ذي قار عام 1952 في محلية الشرقية، من عائلة كادحة. عرف منذ صباه في محلته التي تضم الكادحين والفقراء بشجاعته ودفاعه عن ابناء محلته ومساعدته لهم. امتهن في شبابه العديد من الاعمال لمساعدة عائلته، عامل مقهى وبائع حلويات وبائع فواكه، وغيرها. نشط وسط الشبيبة الديمقراطية، وتوجه للعمل وسط المناطق الشعبية في أطراف محلة الشرقية وشارع عشرين ومنطقة السيف ومحلة الصابئة. حصل على عضوية الحزب في عام 1971 وكان اسمه الحزبي (صلاح)، ويكنى أبو صلاح.

درس في معهد الادارة في بغداد- الكرخ أعوام 1974- 1976، وكان ممثلاً للطلبة الشيوعيين وعضواً في اللجنة الحزبية للمعاهد الطلابية. تعرض لمحاولة أزلام السلطة الاعتداء عليه في الاقسام الداخلية بسبب موقفه الصلب وتحديه البعثيين واتحادهم اللاوطني. وفي شجاعة وبسالة استطاع تلقينهم درساً امام طلاب القسم الداخلي، مما أثار غضب منظمة البعث الطلابية التي أرسلت عناصر الأمن لاعتقاله بعد عودته إلى الناصرية. وقد كان له موقف بطولي في الاعتقال وقد مورست ضده شتى انواع التعذيب. وخرج من المعتقل مرفوع الرأس، وكانت زغاريد والدتي قد ملأت المحلة وهي تردد: 

 - (ها يمه بيضت وجهي يا رفعت الراس) ... وهي تنزع شيلتها وتكشف عن شعرها متحدية أزلام السلطة الفاشية...

اعتقل في صيف عام 1981 خلال الهجوم الذي تعرضت له منظمة بغداد. وبعد تعذيب شديد وصمود في مديرية الأمن العامة، تم جلبه مخفورا لمديرية الأمن في مدينة الناصرية للتعرف على هويته، ولكنه ظل صامداً حتى استشهاده في الأمن العامة في آب 1983 حسب ما ورد في الحاسبات الالكترونية للأمن العامة. وظل حتى هذه اللحظة دون قبر، ولكنه بأفكاره وبمواصلة رفاقه الطريق من أجل تحقيق حلمه في العدالة الاجتماعية والوطن الحر والشعب السعيد، فهو مثل حزبه الشيوعي العراقي المجيد حي ويعيش في كل شبر من أرض العراق كنخلة باسقة.

***********

أن تفقد أخا أو فرداً من أفرد عائلتك شهيداً في طريق النضال والتضحيات، فهذا ما يبعث على الفخر والتباهي، رغم آلام وأوجاع الفقدان. أما أن تفقد أخوين شابين يافعين فهذا ما يضاعف الألم والوجع ويترك في الروح ذكريات لا يمكن أن تنسى مهما تقادمت السنون.. عن أخويها الشهيدين:

 صبار نعيم وجبار نعيم، تتحدث الرفيقة صبرية نعيم:

- مع ذكرى يوم الشهيد الشيوعي استذكر وبفخر السجل الكفاحي المشرف لشهداء حزبنا والحركة الوطنية، وأنظر بعين الحزن والأمل للدلالة التاريخية العميقة في مثل الوفاء التي جسدها استشهاد الشهيدين جبار نعيم غانم وصبار نعيم غانم، والدروس البليغة الأليمة بعد الهجوم الشرس ضد قواعد حزبنا في عام 1978. لقد قاوم الشهيدان ببسالة رجال الأمن الذين اقتادوهم مكبلي اليدين ومعصوبي العينين وأمام انظار والدتي ووالدي.

مع غياب اخوتي صار البيت موحشا يذكر كل ركن فيه بذكريات عن الشهيدين. ولم تمض فترة قصيرة وبسبب تراكم الهم والكمد، رحل الوالد والوالدة، وبقيت أنا البنت الوحيدة أكابد عذاب الفقدان...

ذكرى يوم الشهيد تذكرني بأن الشهداء باقون في القلوب والضمائر...

وسوف تبقى دمائهم الزكية وروداً حمراء تطرز أرض العراق، وتسقي تربة الوطن.

المجد والخلود لجميع الشهداء....

**********

الرفيق عاكف سرحان (أبو ساطع) الذي يقيم ويعمل في مدينة ستوكهولم في السويد التي قدم اليها لاجئاً بعد تجربة السجن المريرة التي عاشها في زنازين الطاغية، يستذكر صفحات ظروف استشهاد شقيقته الشهيدة:

زاهرة ذياب سرحان، وهو محق تماماً حين يصفها بالزاهرة والتي بقت زاهرة في روحه وفي وجدان وضمائر كل الذين عرفوها وعايشوها... يتحدث الرفيق عاكف سرحان:

- زاهرة وتبقين في الروح زاهرة.... ها أنت 14 شباط قد دنوت وصفحات الشهداء الشيوعيين تقلب المواجع وتثير الشجون وتنتفض الذاكرة لنقول لهم لن ننساكم وعلى دربكم وفكركم سائرون وأردد 

((ما نسينه الي نحبهم مانسينه... ولا عشكنه غيرهم والله وهوينة، شلون ننسه الي فرحنه من فرحهم، شلون ننسه الي جرحنه من جرحهم)) ...وفي كل زوايا الأماكن تحاصرني ذكرى الشهداء، في المحلة.. في الشارع.. في المدرسة..في الكلية..في العمل في كل مكان.

وفي البيت انظر يومياً إلى صورة أختي الشهيدة الشيوعية البطلة زاهرة ذياب سرحان مواليد 1958 الإنسانة الرقيقة والطالبة المجدة التي تهيأت للقبول في الكلية، والابتسامة لا تفارق محياها والتي جعلتها سنوات الكفاح محبوبة من الصغير والكبير وتعرضت إلى الملاحقات المستمرة من قبل السلطات البعثية رغم وجود الجبهة الوطنية وفي مدينة المولد “الناصرية” ثم في بغداد التي نشطت فيها. وأثناء الهجمة الشرسة الدموية للنظام المقبور وأزلامه ومؤسساته القمعية على منظمات حزبنا، تم اعتقالها بتاريخ 2/8/1980 أثناء لقاء حزبي، وصمدت ببطولة وغيبت كحال بقية الشهيدات والشهداء الذين ارتقوا للمجد. وبعد 15 عاماً حصلنا على شهادة الوفاة التي تشير إلى إعدامها بتاريخ 25/7/1983، لم يسلموا جثتها ولا نعرف مكان دفنها، ولكن بقي تراب كل العراق يحضن رفاتها.

وأخيراً كان لها شاهد في الموقع التذكاري للشهداء الشيوعيين المغيبين في أربيل، فشكراً للجهود القيمة.

لك ولكل الشهداء الشيوعيين المجد والخلود والبعث في مزبلة وإدانة التاريخ.

كان الشاعر الجواهري الأكثر وصفاً لصور الشهادة والاستبسال وهو يرثي الشهداء عبر مرثيته لأخيه جعفر الجواهري، شهيد وثبة كانون الخالدة، حين يشبههم بحاملي الرصاص على الصدور والموغلين المتقدمين الصفوف وقد تزينت صدورهم بأوسمة من الدماء..

في ملحمته الخالدة (يوم الشهيد)، يخاطب الشاعر محمد مهدي الجواهري، أخيه شهيد الوثبة جعفر الجواهري...

مني عليك تحية وسلام .....ولذكرك الأجلال والإعظام...

ومعه نردد في كل حين:

التحيات والسلام للشهداء، ولذكراهم الأجلال والإعظام

المجد والخلود ما شرقت شمس وما غربت لكل شهيدات وشهداء طريق الوطن والحر والشعب السعيد...تحيات وسلام للشيوعيات الباسلات وللشيوعيين البواسل.

عرض مقالات: