يتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية لعام 2025، اعلان الحكومة انطلاق المرحلة الثالثة من مشروع تأهيل مدينة بغداد التاريخية، والتي تشمل محور الميدان حتى ساحة الرصافي، ومحور الرشيد، ومن بين أنقاض هذه المساحة المختارة لإعادة التأهيل، رفعت لافتة مؤلمة تكشف عن عرض سينما الخيام"ط للبيع، والتي تعد آخر دور العرض السينمائي في بغداد.
ذاكرة ثقافية منسية
لافتة بيع سينما الخيام، تركت غصة لدى روادها، وهم يرون أول محطات تعرفهم الى "الفانوس السحري" الذي تظهر من مرآته أول الأفلام السينمائية التي شاهدوها على مقاعد هذه السينما، والأماكن المكتظة بالحياة التي كانت تحيط بها، والذاكرة الثقافية والفنية لعاصمتهم بغداد، يرونها وهي تندثر مع سينمات ومعالم أخرى، دون ان يتحرك أصحاب القرار في الدولة لوضع هذه المعالم ضمن الاهتمامات، على الرغم من التخصيصات المالية الكبيرة والتي رصدت لإنتاج الدراما والسينما، لكنها في الغالب لم تلق أماكن مخصصة للعروض.
الصورة التي التقطها السيناريست حامد المالكي للافتة بيع سينما "الخيام"، انتقلت الى صفحات عديدة على وسائل التواصل الاجتماعي، ومن بين من رفقوا الصورة وكتبوا عنها، الصحفي علي السومري، الذي قال في تدوينة على حسابه الخاص في "فيسبوك" ان "كانت هناك نيّة حقيقية لتأسيس وتنشيط السينما العراقية، فهناك فرصة ذهبية، لشراء سينما الخيام، وترميمها لتكون دار عرض محترمة لأعمالنا السينمائية، بدل إنتاج أفلام بائسة بملايين الدولارات كما حدث في بغداد عاصمة الثقافة".
وأضاف، ان "دعم السينما، دعم لدور العرض، فلا توجد سينما دون دور عرض!.. على المختصين والمسؤولين، شراء هذه السينما بدل أن تتحول إلى محال تجارية ومخازن".
مغنية الحي لا تطرب
السيناريست حامد المالكي قال لـ"طريق الشعب"، ان "سينما الخيام تحديدا لديها خصوصية، فصاحب السينما تعاقد مع الفنان جواد سليم لرسم الجدران الداخلية للسينما، وكان سليم في وقتها لم يشرع بتعليق جداريته العظيمة "نصب الحرية" في ساحة التحرير، وكانت شهرته داخل العراق لم تنطلق للعالمية بعد، في هذه الاثناء جاء الى العراق احد الرسامين الايطاليين المغمورين، ولان "مطربة الحي لا تطرب" قام صاحب السينما بإلغاء العقد مع سليم وجعل الرسام الإيطالي يرسم هذه الرسوم "الباهتة" لليالي الخيام".
وواصل المالكي: "لنتخيل لو كانت هذه الرسوم لجواد سليم فكيف ستكون قيمة جدران هذه السينما".
وأضاف، ان "سينما الخيام هي المعلم السينمائي الأخير في بغداد وتقع في شارع مكتظ"، مبينا انه "قبل أيام مررت بالشارع ورأيت اللافتة التي عرضت فيها سينما الخيام للبيع وتعرضت لنوع من الصدمة، بسبب خصوصية هذه السينما التي شاهدت فيها أجمل الأفلام وجعلتني أحب الدراسة والتخصص بالسينما فالتقطت الصورة بألم ونشرتها وانا اشعر بألم كون احلامنا السينمائية نشأت هنا، في هذا المكان".
سياحة بلا معالم
وبين السيناريست، ان "من حق صاحب الملك ان يعرض السينما للبيع كونها ليست ملكا للدولة، لكن ممكن ان تقوم الدولة بشراء وترميم المعماريات الاثرية ومنها البيوت القديمة والسينمات القديمة، ونحن لدينا خمسة بيوت تراثية في شارع حيفا وفي شارع أبو نواس أيضا بيت محسن السعدون رئيس الوزراء عام 1927 وكذلك بيت عالم الري والمؤرخ احمد سوسه صاحب كتاب "العرب واليهود قبل الإسلام"، وان تضع الدولة هذه الأشياء ضمن اهتماماتها". وتساءل المالكي، "حاليا يريدون بغداد ان تكون عاصمة للسياحة والثقافة؟ فهذه هي السياحة والثقافة حين تقول ان هذه السينما شيدت في هذا التاريخ وهذا البيت سكن فيه رئيس وزراء العهد الفلاني واشخاص مهمون من الفنانين والمثقفين تواجدوا هنا".
وأشار الى ان "المفارقة ونحن نتفرج على التلفاز هذه الأيام نرى كيف تسقط تماثيل حافظ الأسد وبشار الأسد في سوريا، وقبلها كيف سقطت تماثيل صدام، ونشاهد فقط تماثيل الشعراء والفنانين هي من تبقى".
ودعا المالكي الى "الاهتمام بالثقافة والفنون كما يجري الاهتمام بالسياسة".
جزء من اهمال كبير
من جانبه قال المخرج السينمائي، رعد مشتت، ان "ما مر به العراق منذ فترة الحرب العراقية الايرانية وغزو الكويت وفترة الحصار وسقوط النظام السابق، دمر قطاع السينما الذي كان متنفساً للعائلة العراقية آنذاك، بينما لم تبد الدولة بعد العام 2003 اهتماما بإعادة الحياة لهذا القطاع الذي عانى من التهميش والاهمال".
واضاف في حديثه مع "طريق الشعب"، ان "قطاع السينما هو جزء من العديد من القطاعات التي عانت التهميش والاهمال على مدى عقدين من الزمن بعد التغيير، فيما أدت الظروف الصعبة التي مرت بها البلاد الى حرف اهتمام العائلة العراقية عن السينما".
ونوه الى ان "تهميش واهمال دور السينما يعد امراً بسيطاً، قياساً بحجم المعاناة الاكبر على مستوى العاصمة، اذ لم تقدم السلطات شيئاً لبغداد والمدن العراقية الاخرى طيلة الفترة الماضية، حتى يكون هذا القطاع من ضمن اهتماماتها".
ضعف الصناعة السينمائية
وتابع مشتت انه "لا يمكننا القول انه لا توجد دور سينما، وهي موجودة لكن في المولات، وتعرض الاعمال التجارية التي تقدمها هوليوود والسينما المصرية، والتي تدخل ضمن اهتمام الشباب اليوم"، مبيناً ان "العراق حتى الان مازال بلا صناعة سينمائية، رغم المنحة التي قدمتها الحكومة والتي تعد بسيطة، إذا ما أردنا النهوض فعلياً بهذا القطاع".
وأردف بالقول: ان "دور السينما التي تعرض للبيع اليوم هي ملك خاص، ولكن هذه الدور لها مكانة رمزية ومعنوية كبيرة، وكان الاجدر بالدولة شراء هذه الدور واعادة الحياة اليها من جديد".
وأشار الى ان "الثقافة والفن والتاريخ، هي اولويات السائح الذي يزور اي دولة، فما بالك بالعراق الذي يمتلك ارثاً كبيراً في كل واحدة منها، ولا نعرف حقيقة كيف نبرر ان عاصمة السياحة العربية، تُعامل دور السينما العريقة فيها بهذه الطريقة!!".