كان صدور جريدة طريق الشعب العلنية في أيلول 1973، وقبلها جريدة الفكر الجديد الأسبوعية.. حدثا مهما ثقافيا وسياسيا.. حيث لم تكونا فقط منبرين للحزب الشيوعي العراقي، بل منفذين ثقافيين لجمهرة من الأدباء والفنانين الشباب، ومدرستين شاملتين لمتابعي الأفكار الماركسية واليسارية.
وكانت الجريدة الوحيدة في وقتها التي يشارك قراؤها في تحريرها وتوزيعها.. حيث شكلت المنظمات الحزبية مكاتب صحفية ترفد هيئة تحرير الجريدة بالأخبار والمقالات المتنوعة. وارتبطت بالمكاتب الصحفية شبكة من المراسلين الصحفيين قي معظم المعامل، ومعاهد العلم، والمدن، والقصبات.. وغطت الشبكة العراق من زاخو وحتى الفاو. وكل العاملين في المكاتب الصحفية إلى جانب المراسلين كانوا يعملون بشكل طوعي دون أي تعويض مالي.
كما احتضنت الجريدة عددا من المبدعين الشباب من شعراء وأدباء وفنانين.. انطلقوا من الجريدة نحو دروب الإبداع الثقافي. كما تخرج منها كادر صحفي أنتقل للعمل في الصحافة العراقية والعربية.. وأصبحوا أعلاما صحفية وإعلامية.
واحتلت الجريدة الموقع الأول بين الصحف اليومية.. وتشكلت شبكة من المتطوعين الذين قاموا ببيع الجريدة في أماكن التجمعات الجماهيرية مما ساهم في توسيع قاعدة قراء الجريدة. وكان من الطبيعي أن يجد المرء الجريدة في المقاهي ونوادي الطلبة ومقرات النقابات وغيرها من أماكن التجمع الجماهيرية.
لقد أرعب ذلك السلطة الحاكمة وحزبها الذي حاول جعل جريدته الثورة إلى منافسة وبديلة عن طريق الشعب.. حتى أنه ضم إلى هيئة تحريرها كتابا ماركسيين وشيوعيين سابقين.. ولكن كل محاولاتهم ذهبت دون نتيجة، وبقت طريق الشعب الجريدة الأكثر شعبية من كافة الصحف اليومية.
إن واحدا من أسباب نجاح طريق الشعب هو انها رافقت نهضة ثقافية وفكرية مع استقرار سياسي نسبي. وتعطش جمهور القراء للنشريات اليسارية. فلقد كان الشارع يساريا. وكانت تعم البلاد الموجة اليسارية التي سادت المنطقة بعد حرب حزيران 1967 وانطلاق المقاومة الفلسطينية المسلحة وتصاعد العداء لأمريكا والمجتمع الغربي.
ولا زلت أتذكر عند عودة طلبة الكليات والمعاهد من الدوام، وانتظارهم في ساحة الميدان لحافلات مصلحة نقل الركاب، كنا نلتقي بطالبات وطلاب يرتدون الزي الجامعي ويبيعون نسخا من طريق الشعب. ويتحدثون مع الناس عن المواضيع المنشورة فيها. وفي أكثر من مرة ولشدة إعجابي بهؤلاء البائعات المتطوعات والبائعين المتطوعين، قمت بشراء أكثر من جريدة من أكثر من بائع. ووزعتها على رواد المقاهي المزدحمة في المنطقة.
لفد شعرت السلطة وحزبها بخطورة وجود الجريدة، لما وصلت إليه من إقبال من مجموعة واسعة من الشبيبة ومن مختلف الحرف والاتجاهات. لهذا لجأت إلى التضييق على توزيع الجريدة، ومنع دخولها إلى الدوائر الرسمية ودور العلم. وهنا علق الصحفي الراحل وعضو هيئة تحرير الجريدة شمران الياسري أبو كاطع بمقترح طبع الجريدة بدون رأس ليسمح بدخولها إلى الأماكن الممنوعة. ويقصد ساخرا طبع الجريدة دون ذكر اسمها وشعارها الأحمر. وقد أثار الفقيد أبو كاطع غضب السلطة التي أجبرته على ترك الجريدة والعراق.
وكنت قد كلفت من قبل هيئة تحرير الجريدة بإجراء لقاء صحفي مع رئيس الجامعة المستنصرية سلطان الشاوي.. وخلال اللقاء شكرته على موافقته على طلب الجريدة باللقاء به. ولكنني أعلمته بأن الجريدة ممنوعة من التوزيع داخل الحرم الجامعي بدون سبب معقول. فأجابني بالسماح لي بحمل الجريدة داخل الجامعة، وهذا فقط ما يستطيع اتخاذه من قرار. والتزمت يوميا صباحا بجلب الجريدة معي. وكل يوم يستعير الطلبة البعثيون مني الجريدة، وتختفي من أيديهم. واستمرت هذه اللعبة حتى أخر يوم من دوامي في الجامعة.
وعند بدء حملة السلطة وأجهزتها القمعية ضد قواعد ومنظمات الحزب الشيوعي، أصبح شراء واقتناء الجريدة بشكل علني جريمة لا تغتفر. ولجأ قراء الجريدة إلى أساليب عدة للحصول على الجريدة، وقراءتها بالسر، وبعيدا عن أعين رجال الأمن وعملائهم.
وهكذا أصبحت جريدة طريق الشعب تحرر وتطبع علنيا، ولكنها تصل إلى قرائها بمختلف الطرق السرية.
ولا أنسى صديقي وزميلي رزاق والذي كان العثور بين أوراقه الجامعية على نسخة من الجريدة سببا لاعتقاله داخل الحرم الجامعي في الجامعة المستنصرية.. وفقدانه في السجون حتى سلمت جثته إلى أهله وأثار التعذيب واضحة عليها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* من أسرة تحرير «طريق الشعب» العلنية في سبعينيات القرن الماضي