اخر الاخبار

قبل يومين واثناء عودتنا من كركوك، بعد الاشراف على انتخابات اتحاد الادباء والكتّاب في المحافظة، لم يتوقف المطر عن الهطول ونحن في الطريق. فبتنا نردّد: أتعلمينَ أيّ حزنٍ يبعثُ المطر؟ وتذكّرتُ حينها انه لم يدر بخلدي أنني سأكره المطر يوما، نظرا لما كنتُ أشعر به يتغلغل بين كل مسامات روحي فرحاً وانتعاشاً، كلّما سرتُ تحته!

منذ أن فتحت عينيّ على المطر، وأنا طفل أحبو في باحة بيتنا الطينيّ في أقصى جنوب القلب، عشقته وعشقت رائحة الأرض بعد سقوطه، لهذا أجدني منتعشاً ومبتهجاً وحالماً في لحظات هطوله!

كانت قريتنا تزدان بالمطر، وهو يطرق الشبابيك والسطوح ويجعل من المزاريب آلات موسيقية، تعزف أجمل الألحان وهي ترمي بالماء على الأرض ليحفر أخدوداً يأخذ مسارب شتى!

كنّا ساعتها مجبولين بالعشق القروي للمطر، نلعب ونفتح اكفّنا لنتلقّف حبيبات الحالوب، جاعلين منها حلوى باردة في أفواهنا!

كانت البساتين تلبس حلّتها الخضراء المبتلّة، ويقطر الماء من سعف النخيل وأغصان الأشجار والأوراق، ليلثم خدود الحشائش والأزهار!

وكبرنا، وكبر هذا العشق المطريّ في أرواحنا.. ولكن، (وآه من كلمة لكن) أصبحنا الآن نتهرب منه، بل نتذمّر وننزعج حين تمطر، وندعو من كل قلوبنا أن لا تمطر أبداً، مع أننا نعرف جيداً أن المطر حياة الأرض. وسبب هذا التغير في موقفنا هو الخراب وسوء الخدمات، اللذين تقف المحاصصة والفساد وراءهما!

عند أول قطرة تطفح المجاري المسدودة، وتفيض الشوارع، وتغرق البيوت والأسواق، ويتسرب الماء من السطوح، وتسقط سقوف وتنهار منازل!

لهذا نخاطب المتنفذين ونقول: هل قدّمتم للناس خلال هذه السنوات غير الخراب والقلق والأمراض والموت ؟!

كان الناس يدعون لزوال حكم الطاغية الفاشي الذي جرّ البلاد إلى حروب وموت وخوف مزمن ، وكانوا ينتظرون ساعة الخلاص منه ، لذلك رقصوا وغنّوا في الشوارع والبيوت فرحين بسقوطه، حالمين بأيام خيرٍ وسعادةٍ وهناء. لكنكم بدّدتم فرحتهم ، وسرقتم سعادتهم ،وضيّعتم أحلامهم ! جئتم باحترابكم الطائفي، ومحاصصتكم المقيتة التي شرعنت للفساد وما تزال تشرعن كلّ يومٍ، قانوناً لا يقبل به عقل ولا منطق ولا ضمير إنساني أبدا!

لم تفكروا ببناء الإنسان بعدما أنهكته الحروب والفاشيّة، ولم تقدّموا له العلم والمعرفة والحقوق والخدمات!

لم تفكّروا ببناء الوطن من خلال إعادة الحياة إلى المصانع والمعامل والمزارع والعمران والعدالة والحرية والتقدّم والتطوّر في كل شيء!

ثم ان بناء الوطن من بناء الإنسان.. وعشق المطر يعني عشق الحياة والجمال!

لكنكم بفسادكم وباستهانتكم بالانسان وبالوطن، جعلتمونا غرباء في هذا الوطن، وجعلتمونا نكره المطر لأنّه يُفسد علينا كلّ شيء في حالنا المحزن اليوم، فنظلّ نردد مع السياب عند كلّ زخّة مطر: وكيف يشعرُ الغريب فيه (في المطر) بالضياع ؟!

عرض مقالات: