اخر الاخبار

 عندما كنت صغيراً، وفي قريتنا الغافية عند تخوم البحر، كنّا نغترف من النهر مباشرة ونشرب حتى نرتوي ماءً عذباً، وعلى مقربة من بيوتنا وتحديدا في مركز قضاء الفاو كان يقع الميناء الذي يصل البصرة والعراق بالعالم عبر رحلات بحرية متنوعة.

كانت في القضاء دور سينما ونوادٍ اجتماعية ومكتبات ومقاهٍ وساحات للتنزّه، وكنّا نلحّ على آبائنا أن يأخذونا معهم لنشاهد فلما هنديا أو كاوبوي ، وكان القائمون على النوادي الاجتماعية تلك (نادي الموانئ، نادي النفط ...الخ ) يقيمون حفلات وسهرات عائلية بين وقت وآخر، إضافة الى السفرات السياحية هنا وهناك ومسابقات الزوارق الشراعية والتجديف والسباحة وغيرها.. كان القضاء في الستينات والسبعينات يعجّ بالسيّاح والزائرين من أجانب وعراقيين من العاصمة والمحافظات الأخرى ، وقد ازدهرت السياحة بفضل اهتمام المسؤولين والقائمين على أمور القضاء إدارياً!

أتذكّر تلك الأيام التي تمرّ في خيالي الآن، اتذكر صورة جزيرة السندباد التي انتعشت في تلك الفترة وصارت محطّة للمصطافين والزائرين والعرسان من مختلف المحافظات !

لهذا رسمتُ في مخيّلتي صورةً مستقبلية للأهوار حين تمَّ إدراجها كتراثٍ عالميٍّ انسانيّ ومعها بعض المواقع الأثرية، صورةً زاهيةً إذا التفتنا إليها بشكلٍ صحيح بعيداً عن العقليّة الضيّقة والأفكار السطحيّة والفساد بشتى صُوَرِه ، وقارناها بما تعانيه الآن من جفافٍ وتصحّر !

يذكر المؤرخ اليوناني هيرودوت ( تاريخ هيرودوت ج1 ص116) أن امرأتين حكمتا في أرض العراق القديم، الأولى هي سميراميس ، والثانية اسمها نيتوكريس. ويذكر تاريخياً أن هاتين الملكتين أنشأتا بعض الحواجز الضخمة في السهول خارج المدينة، للتحكم بالنهر الذي يغرق الريف والمزارع حين يفيض، وشَقّتا القنوات المائية وقامتا أيضاً بالكثير من الأعمال العمرانية المتمثّلة ببناء القصور والمعابد والجسور ،الأمر الذي أدى لتخليدهنّ بين كبار الملوك في العالم القديم !

فإذا أراد حكامنا أن يذكرهم التأريخ بخير ويخلّدهم كحكّام مصلحين حقيقيين يخدمون بلدهم، فعليهم الابتعاد عن ممارسات الفساد والمحاصصة في كل خطوة يخطونها، وعليهم العمل على جعل أهوارنا محطّة للسياحة في العالم اجمع، لا مقبرة لكلّ كائن حيّ من حيوانٍ ونبات، وعليهم أن يدركوا تماماً أن السياحةَ موردٌ اقتصادي مهم جداً، وان بلدانا عديدة في العالم  تعتمد في اقتصادها كليا على السياحة !

كما ان علينا أن نضع الدراسات والبرامج الكفيلة بشكل جدّي وصادق بتحويل هذه الاهوار إلى منتجعات سياحية، فيها ما يجذب السائحين ويجعلهم في ذهاب وإياب لا أن نحوّلها إلى صحراء قاحلة كما فعل الطاغية المقبور في تسعينات القرن المنصرم. وبهذا نفتح باباً لدعم الاقتصاد الوطني مع تشغيل أيدي عاملة كثيرة والقضاء على نسبة من البطالة ، كما ان علينا أن نفتح حواراً مهمّاً وجدّياً وبانتماءٍ عراقيٍّ صميميّ وتحت إشراف أممي مع جيراننا، الذين يحاصروننا الآن بقطع موارد المياه وتحويل أهوارنا إلى أراضٍ جرداء تنعدم فيها الحياة.

عرض مقالات: