اخر الاخبار

لم تكن صورته الجسمانية قد ارتسمت بعد في أذهان مستمعيه لحظة إصغائهم لشريط تسجيل مهرّب من أماكن شتى، بل تجسّدت لهم ثورة تمشي بين الكلمات عبر ذلك الشريط الذي عبر كل الحدود بأسلاكها الشائكة وبواباتها المقفلة بوجه صاحب الصوت، لتدخل كل بيت وتتغلغل في وجدان كل إنسان من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب!

هاجسٌ ظلّ يلازم الناس وهم يستمعون إليه، ليرسم طريق الثورة بكل معانيها، يحاكي الفقراء وضمير الناس في كل مكان، صارخاً بكل ما فيه من قوة أن انتفضوا ضد الظلم والطغيان، وصوغوا حياتكم بأجمل ما تريدون لها أن تكون!

كنّا طلّاباً في الجامعة أوائل ثمانينات القرن المنصرم، نتحلّق منصتين بعيدا عن الانظار لكلماته عبر جهاز تسجيل جلبه أحد زملائنا من الطلبة السودانيين في القسم الداخلي، وهو يترنم بوترياته لنحفظها عن ظهر قلب. وما أن تخرّجنا حتى سيق بنا إلى أتون الحرب حطباً لشهوات طاغية أرعن، وكانت كلمات مظفّر معنا، نرددها مع أنفسنا في الخنادق وفي السجون لاعنين الحرب ومَنْ أشعلها!

كبرنا فكبرت معنا تلك الكلمات، وصارت هاجسنا الذي ما انفكّ يثير فينا نوازع الثورة والتمرّد!

في الجامعة أردنا أن نتمرّد بطريقتنا الخاصة فصرنا صعاليك نلوك كلمات الثورة المظفّرية، غير آبهين بما ستجرّه علينا من عواقب، لأننا نريد أن نشعر بأننا قريبون من مظفّر النوّاب روحاً وهاجساً ثورياً متمرّداً على كل شيء!

ومع الوتريات كانت البنفسج وروحي الأغنيتين اللتين أصبحتا جواز سفر لمحبتنا لكلّ ما هو جميل في هذا الكون، رغم ما فيهما من حزن، وبصورهما الشعرية التي تجعلك تطير فوق خيالات المعنى بأسى شفيف!

مظفّر النوّاب .. كان ويبقى قصيدة ثائرة تصل إلى أقصى المديات رغم كل شيء!

فمع الشعر سارت حياته النضالية موازية ، حيث سمعناه وقرأناه في مذكّرات من زاملوه في السجون، كنقرة السلمان وسجون الحلة والكوت وبعقوبة،وغيرها من المحطّات النضالية التي كانت له فيها وقفات شامخة تجسد البطولة بمعانيها السامية، مثل حكاية حفر النفق والهروب من سجن الحلّة التي وقعت كالصاعقة على رؤوس الحكّام آنذاك. 

وبقي يجول حاملاً الوطن معه، رغم ما عاناه من مواقف صعبة وقاسية جداً!

وكل هذا صاغه في قصائد وصلت بصوته إلى آذان محبّيه، قبل أن تصل مكتوبة ليتناقلوها كمنشور سرّي!

كانت قصائده منشوراً سرياً بحق، وكنا نغامر بتداولها من شدّة تعلّقنا بمظفّر المناضل والشاعر والإنسان، والمعبر عن الحلم بوطن حرٍّ وشعب سعيد!

رحل مظفّر جسداً لكنّ قصائده ستظلّ تعلّمنا دروس ومعاني النضال والثورة، والحياة الحرة الكريمة في كل زمان!

سلامٌ عليك أبا عادل في كل حين!

عرض مقالات: