منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كانت سيارات النقل العام تنطلق من محل الحاج مريدي الفرطوسي، إلى كل مناطق العاصمة بغداد. ومع مرور السنوات وتعاقب السلطات على حكم البلاد، أخذت الحركة التجارية تتسع في محيط ذلك المحل، لتشكل ملجأً وحيداً لفقراء قلب العراق، الذين تتزايد أعدادهم بفضل سياسات السلطات المتعاقبة، منذ مرحلة ما بعد عبد الكريم قاسم، وحتى الآن، فأصبحت مساحته تزيد على أكثر من ثلاثة كيلومترات مربعة.
ظل سوق مريدي، لاكثر من ستة عقود، متصالحا مع حاجات الفقراء، الذين يقصدون من جميع مناطق بغداد. لم يطرد يوما فقيرا؛ لم يرفض تلبية حاجة فقير لجهاز مستعمل، لملابس مستعملة، لعمل، لسلع يطلبها مجانا. وفي مقابل كرم "مريدي" كانت السلطات تزيد وتوغل في اضطهاد الناس وسرقة ثرواتهم وقوت عيشهم، وحياتهم.
"مريدي" عالم مكتظ بالفوضى الشعبية، وهي نظامه الوحيد: خليط من الأصوات والروائح والألوان؛ نداءات الباعة تتداخل مع صخب الزحام، وأكوام الكتب المستعملة تغط الشارع والرصيف، مع التحف القديمة والملابس الرخيصة والسلع الغريبة. كل هذا الأغراض تصرخ: طوبى للفقراء، أجيالا بعد أجيال.
سوق مريدي، الذي يشكل ذاكرة مفتوحة لبغداد الشعبية، ويعكس وجها لمدينة واجهت قهر ماضيها، يستسلم اليوم بسهولة لـ"شفل الحكومة" التي تريد سحب أوكسجين جيوب الفقراء، وتمحو ذاكرتهم، وتعدم مصدر زرق آلاف العوائل. نريد لهذا "الوحش الاصفر" أن يكتسح تجاوزات المسؤولين، الأحزاب التي ابتلعت عقارات الدولة وممتلكاتها، وليس مكافحة هذا السوق وفقرائه ومتبضعيه المسحوقين.