اخر الاخبار

الهروب من ملاقاة أزمة المياه في العراق، لن يقود إلا إلى مفاقمة تداعياتها التي غدت واضحة وجلية في نواحٍ عدة، ومن ذلك تأثيرها على الواقع الزراعي والبيئي في البلد. بينما الحلول المؤقتة الترقيعية لا تجدي نفعا، فيما عوامل الازمة الخارجية والداخلية ذاهبة الى مزيد من التشابك والتعقيد.

يتوجب عدم الهرب من تشخيص أسباب الأزمة بمجملها، لا كما يفعل البعض بإرجاعها الى أسباب داخلية صرفة، فهي ابعد من ذلك واكثر تعقيدا؛ حيث إن التبسيط مثل القول بان الأزمة هي سوء إدارة، ويتم غض النظر عن الأسباب الأخرى العديدة، يمثل تشخيصا يفتقر الى روح المسؤولية أساسا.

الأزمة وجودية بمعنى الكلمة، واستمرارها سيترك آثاره السيئة والسيئة جدا على الزراعة والصناعة والواقع البيئي، وستكون له أبعاده الاجتماعية، وليس أدل على ذلك مما يحصل الان من هجرة للفلاحين وعوائلهم. كذلك النزاعات على تقاسم المياه سواء بين المحافظات او في داخل كل محافظة.

ويخطئ للمرة الألف من يظن ويعتقد بان وجود موارد نفطية للعراق، يمكن ان يعوضه عن ذلك، او أن يكون في استطاعته تأمين أمنه الغذائي والمائي، وهو ما كان يقول به بعض من كان في مواقع المسؤولية حين جرى التغاضي عن إيجاد حلول جذرية لأزمة المياه، الى ان وصلت الى ما نشهده اليوم.

مؤلم حقا ان تنقل التقارير الإعلامية هجرة الفلاحين، وجفاف الأهوار، ونفوق الحيوانات، وتحول الأراضي الى صحراء قاحلة، وفقدان الغطاء النباتي وتكاثر الأتربة والغبار، وكل هذا وغيره يفاقم من تركيز الملوثات وتفشي الأمراض.

وبعد ان تخلى البلد عن زراعة العديد من المحاصيل التي تدخل في نطاق امنه الغذائي، نشهد انهيارا يكاد يكون كاملا للخطط الزراعية، سواء كانت الصيفية منها أم الشتوية، وهذا يجعل الأمن الغذائي هشا، فيما تزداد قائمة السلع والمنتجات الغذائية التي نستوردها، وتفقد أعداد متزايدة من المزارعين والفلاحين الإمكانية على مقاومة هذه الظروف، وتُسد أمامهم منافذ البقاء في الريف، فلا مفر من الهجرة الى المدن مما يزيد الضغط والاحتقان فيها، ويفاقم من أزمات البطالة وتقديم الخدمات.

ومع هذا الحال، تدفع البيئة العراقية ثمنا فادحا لهذا الواقع المأساوي، وتتحول محافظات ومدن عدة الى أماكن تواجه مخاطر بيئية جسيمة تهدد قابلية العيش فيها، إنْ لم يكن بعضها لا تنطبق عليه أصلا معايير جودة الحياة العالمية؛ ففي تقرير سابق للبنك الدولي، نشر سنة ٢٠٢٣، حذر من ان ٣٠ في المائة من سكان العراق يعيشون في مناطق "شبه هامشية" بيئيا، وقد تتحول الى مناطق "غير قابلة للعيش" خلال ٥-١٠ سنوات. وها نحن نشهد على ما يحصل الآن، حيث شح المياه وتلوثها تسبب في جعل ٧ من اصل ١٠ مدن عراقية تعاني من نقص حاد في مياه الشرب الآمنة (تقرير اليونيسيف ٢٠٢٣). وكذلك تلوث الهواء، فبغداد والبصرة والناصرية تصنف باستمرار بين أسوأ مدن العالم في جودة الهواء، وأيضا التصحر والمناخ حيث ان ٥٤ في المائة من أراضي العراق مصنفة كمناطق متصحرة. ويضاف الى كل هذا، الارتفاع في درجات الحرارة، مع ازمة الكهرباء الدائمة.

هذه المشاكل الجدية والأساسية التي تواجه المواطنين الان وفي المستقبل القريب هي ما يتوجب الاهتمام بها وتكريس الجهود للحد من تداعياتها الكارثية لا الركض وراء مشاريع استعراضية – انتخابية.

مواجهة هذه الأزمة المتشعبة تتطلب تحركا عاجلا على مختلف المستويات، وهيئات كفوءة ومخلصة، وتوفر إرادة سياسية، وان يكون المدخل متكاملا داخليا وخارجيا، وقبل كل شيء عدم إضاعة حقوق العراق في مياه نهري دجلة والفرات.