اخر الاخبار

قال قُسّ بن ساعدة لولده: إذا ما رأيت حربًا، خسيس المحتد فيها يتحكّم بكريمِه، فالجأ إلى رابية، لأن في الأمر خيانة. ورأى قوم ياقوت أن "من خاف على نفسه من الحق، أسلمته العاصفة للظلم".

مرت هاتان الحكمتان بخاطري وأنا أتذكّر ما جرى في آب قبل 34 عامًا، يوم خابت دبابات أحد أقوى الجيوش، لا عن إقصاءٍ مخبولٍ عن السلطة في الكرملين فحسب، بل عن منعه حتى من إطفاء النجوم الحمراء، التي اقتبست ضياءها من تضحيات ملايين العراة والجياع. ألم تكن هناك خيانة ما؟ ألم تنهمر مليارات الغرب ومحميات الخليج المستكين على رؤوس "الغورباتشوفيين"؟ هل كانت الخيانة وحدها كافية لإحداث ذلك الزلزال، الذي لم تستطع البشرية النجاة من ارتداداته حتى اليوم؟ وماذا عن الخوف من التغيير، أَلَمْ يُسهم في وضع رقابنا تحت السكين؟

أسئلة معقّدة أثقلت بعض الرؤوس فأصابها الدوار، وألقَت بها على ضفّةِ طعامها أَدْسَم، وأبقت البعض الآخر تائهًا بين إجابات لم تزكِّها الحياة، وبصيرة لا تريد أن ترى، في ذات الوقت الذي استعصى عليها فيه إغواء يسارٍ نجا من عصمة المألوف فحلّق في فضاء العقل، وعجزت فيه عن زعزعة قناعة من قرأ الفكرة حتى تفاءلت إرادته واتقدت بصيرته.

لقد بقي هذا اليسار يفخر بالتجربة الاشتراكية، باعتبارها المحاولة الباسلة الأولى لإيجاد بديل إنساني للرأسمالية، يعمل من أجل السلام والتحرر الاجتماعي. بديلٌ حقّق التوازن مع الإمبريالية، وتحمّل وحده التضحيات الهائلة في الحرب ضد النازية، ولم يكن ممكنًا بدونه القضاء على الكولونيالية.

كما أدرك هذا اليسار ما نصّت عليه الماركسية من ضرورة قيام ديمقراطية اشتراكية، ذات بُعد اجتماعي، تحرّر البشر من الخوف والاغتراب، وتضمن التحكّم الجماعي بالموارد، وبإنتاج وتوزيع فائض القيمة. ديمقراطية تنفي ديالكتيكيًّا ما هو سائد في الرأسمالية، وتُقيم إطارًا جديدًا ومتطورًا للحرية.

ويكشف لنا تاريخ هذا اليسار، قبل أن يتم تزويره، كيف أبدع البلاشفة في سعيهم للوصول إلى هذا البديل غداة ثورة أكتوبر، سواء في تطوير المجالس الشعبية (السوفييتات) كبديل عن البرلمان وبكامل السلطات السياسية والاقتصادية، أو في تمكين الناخبين – الذين كانوا غالبية الشعب من الشغيلة والفلاحين – من اتخاذ القرار بأنفسهم، ومراقبة السلطات ومحاسبتها واستبدالها، أو في تأمين الحقوق المدنية الديمقراطية، وإلغاء عقوبة الإعدام، واحترام حرية التعبير والنشر والتنظيم، وهو ما انعكس في مواصلة حتى الأحزاب المناوئة للثورة نشاطها السياسي الحر، ومشاركة 19 منها في انتخابات الجمعية التأسيسية في بتروغراد وحدها.

وإذ يسترشد هذا اليسار بلينين، الذي انتقد البرلمانية البرجوازية لأنها ليست ديمقراطية بما فيه الكفاية، يرى أن المرض الذي نخر تفاحة الحلم الجميل وأفسدها، قد استمدّ قوته من قرار تفضيل صيانة النظام الجديد على الديمقراطية الاشتراكية، وهو التفضيل الذي مثّل خطأً صغيرًا في البداية، قبل أن يتحوّل إلى خلل بنيوي، بسبب العدوان الخارجي والحرب الأهلية، وفي ظل ضعف الطبقة العاملة عددًا ونوعًا وتقاليد، والتلكؤ في تحصين السلطة من البيروقراطية، وفي تحويل الشرعية البرلمانية إلى مجالس شعبية، ومن ثم تعليل هذا الخلل الفكري تنفيذًا لرغبة ستالين.

ويستمد هذا اليسار جرأته على النقد الذاتي وتفاؤله الواقعي من حقائق هامّة تؤكد أن عدم وجود نموذجٍ للاشتراكية يُحتذى به كوصفة جاهزة، يفرض على كل حزب دراسة خصائص بلده بعمق، ليُحدِّد أشكال وأساليب تحقيق أهدافه الآنية وبعيدة المدى. وأنه في ظل غياب الوحدة الجدلية بين الاشتراكية والديمقراطية، يصبح الحديث عن الظفر مجرّد أضغاث أحلام.