تُعَدّ كل أزمةٍ يخلقها احتضار القديم وتلكؤ ولادة الجديد شبحًا يجوب سماء الشغيلة، ويؤدي بها – كما أشار غرامشي في دفاتر سجنه – إلى مسارين متعاكسين: إما أن يحملها إلى شاطئ الخلاص، أو أن يتخذه أعداؤها مطية لإعادة استعبادها.
ويبدو أن الطائفية في عالمنا اليوم واحدةٌ من أخطر تلك الأشباح، لا لأنها مسعى لفرض قيم ومعتقدات معينة على الآخرين وتشكيل المجتمع وفقًا لتصور خاص فحسب، بل لأنها تمثّل شكلاً من أشكال الهيمنة الثقافية والاجتماعية، ينتج عنها نظام سياسي وأيديولوجي يهدف إلى إدامة الهيمنة الطبقية للرأسمالية التابعة، ويتستر بصراع لاهوتي بين الأديان والمذاهب.
وتتجسّد خطورة الطائفية أيضًا في قدرتها على خلق وعي زائف، يُقنع العامل بتصوراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حتى لا يرى في الرأسمالي الذي يستغله خصمًا، بل يراه في العامل الآخر الذي يتعبّد بطريقة مختلفة، ويحوّل الانتماء الطائفي من عنوان ثقافي إلى سجن للوعي، تتكسر فيه إرادة الشغيلة ووحدتها وقوّتها، فيَسْهُل تهميشها وإقصاء دورها ومحاصرتها بالبطالة والفقر، ليستأثر زعماء الأنظمة الطائفية وكتلها بالثروة والسلطة، متحالفة من موقع أدنى مع الرأسمالية المعولمة.
ولهذا، يُلقي تنامي خطورة هذه الأشباح على اليسار مهمةَ إنتاج هيمنة بديلةٍ مضادّة، عبر تنظيم العمال والفلاحين والمثقفين والطلبة وعموم الكادحين، في أطر نقابية وسياسية مستقلة عن الكتلة الطائفية المهيمنة، وتحريرهم من فكرها، ومن الكراهية والتمييز والاستعباد، ومن تغييب الوعي الجمعي، وتبرير مشاريع حماية وإعادة إنتاج السيطرة الطبقية المُقنّعة. كما لا بد أن يتبنى اليسار برنامجًا كفاحيًا لتحقيق بديلٍ جذري يُفضي إلى دولة ديمقراطية تُعيد توزيع الثروة لصالح المنتجين الحقيقيين، تحترم الدين تمامًا وتمنع تسييسه واستخدامه في الصراع السياسي، وتضمن – ليس حرية المتدينين فحسب – بل وتستلهم من قيم الخير الحقيقية التي يُفترض بأنهم مؤمنون بها، ما يساهم في تحقيق العدل وحقوق المواطنة المتساوية للجميع، فالدين هو "زفرة المظلوم" وهو "روح عالم بلا روح"، كما قال ماركس.
وبسبب تأثيرها الكبير على شكل البديل الثوري المرتجى، ينبغي على اليسار التعرف بدقة على طبيعة الأنشطة والمؤسسات التي تساعد الكتلة الطائفية في المحافظة على هيمنتها، وهي غالبًا ما تكون معظم – إن لم تكن جميع – مرافق الدولة، وبشكل خاص التعليم والإعلام والعسكر والقضاء، والتي تُستخدم في تشكيل الانتماء الاجتماعي على أساس الهويات الجزئية بدلاً من المصالح الاقتصادية المشتركة، وبالتالي تُغيِّب وعي الشغيلة، لا لكي تجهل عدوّها الحقيقي – أي علاقات الإنتاج الاستغلالية – بل كذلك كي تدافع عن برجوازية "طائفتها" بوصفها الدرع الرمزي للجميع، دون أن ننسى منظمات المجتمع المدني والحركات الشعبية التي يُشِلّ النظام الطائفي حركتها ويوظفها لصالحه. إن أي تهاون يبديه اليسار في استجلاء كل ذلك، سيصيب الصراع بسكونٍ يُقدِّم خدمة مضاعفة للهيمنة ولا يقوّضها.
وإذ لا يرى اليسار في الطائفية إقصاءً للصراع الطبقي، بل سعيًا موهومًا لإخفائه خلف صراعات مُفبركة تخدم الاستغلال الرأسمالي، لا يُعوّل كثيرًا على أي تغيير جذري للنظام من داخله، بل يخوض نضالًا متعدد الأشكال ضده، بما في ذلك خوض الصراع الانتخابي، حتى وإن لم يشهد هذا الصراع منافسةً بين البرامج واقتصر على الولاء للزعيم أو الكتلة التي تقدم نفسها حاميةً للجماعة، إيمانًا منه بأن تظافر ميادين الكفاح المختلفة يُعزز إنتاج الهيمنة البديلة.
وأخيرًا، لا يرى اليسار في الأنظمة الطائفية قَدَرًا – كما يحلو للبعض القول – بل نظامًا هشًّا وقابلًا للكسر والاستبدال، بنظامٍ أقرب لروح الدين وفطرة الإنسان والعدالة والتنوع، وهو ما تؤكده تجارب الشعوب.