اخر الاخبار

قال رجلٌ لسفيان الثوري يوماً: "إني أخيط ثياب السلطان، أفتراني من أعوان الظلمة؟"، فرد عليه سفيان قائلاً: "بل أنت من الظلمة أنفسهم، إنما أعوان الظلمة من يبيعك الإبرة والخيط"!

تذكرت حكاية هذا الشيخ وأنا أتابع ما يجري في المنطقة اليوم، فوجدتها صالحة لتفسير ما حلّ ببلداننا من خراب، وما ينذر به قادم الأيام من كوارث، ولتفضح نخباً وأنظمة وكتلاً سياسية واجتماعية، نجحت في إخفاء تبعيتها ومصالحها الطبقية خلف ستار من مظلوميات طائفية وقومية، ونُخَباً تدّعي وصلاً بالتقدّم، راحت تساوم الطغاة بذريعة العقلانية والتجديد الفكري والبراءة من الشعارات الثورية.

وكما بات جلياً أن القومانية المتطرفة والطائفية السياسية لم تكن يوماً صراعاً بين الجماعات البشرية أو تمثيلاً لها، بل نظاماً يُستخدم من قِبل القوى المهيمنة لإدامة السيطرة الطبقية، فإن قيام أي طيف يساري (مهما كان تجديدياً) بالبحث عن ذئبٍ رأسماليٍّ تخلّى عن أكل اللحم النيء، يطعن في مصداقيته، التي لا تكمن إلاّ في التمسّك بالنضال من أجل حلّ التناقض التناحري بين الطبيعة الاجتماعية للعمل وبين الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وخلق عالمٍ تديره الشغيلة ديمقراطياً، ويعطي الأولوية للاحتياجات الإنسانية لا للربح، بغضّ النظر عمّا إذا كان ذلك الطيف يرى في التناقض صراعاً بين الطبقات، كما كشفت عنه الماركسية، أو صراعاً بين أغلبية محرومة من الرفاهية وأقلية تتحكم في السلطة والثروة، كما يحلو وصفه لبعض أطياف اليسار الجديد.

وعلى الرغم من أن تحوّل القومانيين والطائفيين طوعاً إلى سواعد مفتولة للعولمة المتوحشة يمثّل أكبر خطر على مستقبل شعوب المنطقة، فإن تبنّي بعض النخب لفكرة تحسين آليات الاستغلال وإصلاح أنظمة الاستبداد لا يقلّ خطراً، حين يساهم في تعزيز قدرة الطغاة على تشتيت القواعد الشعبية بكتل منغلقة على نفسها، وخلق وعي زائف يبقيها خائفة وسهلة الانقياد، ويلحق الهزائم بهذه القوى في متوالية هندسية ذات تأثير بعيد المدى. فالهزيمة، وإن أثمرت عن دروسٍ مهمة قد تجعل النصر أكثر احتمالاً في الغد، فهي غالباً ما تُثبّط — للأسف — من عزيمة الكثيرين، وتؤدي إلى استنتاجات متشائمة، تستدعي جهداً تعبوياً كبيراً لاستعادة الوعي بأن النضال من أجل عالمٍ أفضل، ليس أمراً سهلاً، ولا درباً خالياً من المطبات والنكسات المؤقتة.

إن شرط انتصار اليسار يبقى في قدرته على التحدّي، على تبنّي التكتيكات والاستراتيجيات الفعّالة، على تشخيص الحلفاء أو الأعداء، وعلى مواصلة المقاومة الجماهيرية، بهدف كسر دفاعات الطغاة المستغلّين: من قوانين مقيّدة للحريات، وأدوات قمع وترهيب، ومؤسسات دعاية وتضليل، وقوى ناعمة، ومنظمات "مدنية"، ومؤسسات "خيرية" تدّعي دعم الفئات الهشّة — وهو تعبير فظّ ومخاتل، يقصدون به ملايين المضطهدين ممّن يسحقهم الاستغلال الرأسمالي البشع.

ويعتمد توفّر هذا الشرط على متانة التنظيم، وقدرته على تربية وإعداد مناضلين ملتزمين ببناء المقاومة، متطهرين من رجس التعصب، مستمتعين بالنشاط الميداني في المصنع والحقل والمدرسة والجامعة وبين بيوت الطين، متمكّنين من إقناع الناس بمصالحها وسحب الغشاوة عن أعينها، وبالتالي إشراك هذه الفئات "الهشّة" بقوة في كسر تلك الدفاعات وإحداث التغيير الاجتماعي الحقيقي.

ولكي يتبيّن الخيط الأبيض من الأسود، ينبغي أن يتمتّع كل مقاوم للرأسمالية وأتباعها بحرية تامة في المساهمة في معركة الأفكار، حتى تتكشّف عند جلاء غبارها كُتَلٌ يسارية موحّدة في إرادتها، متناغمة مع نظيراتها، تتعاضد مناهجها، وتختبر تكتيكاتها في مجرى الكفاح، فتتعلّم من بعضها وتُعلّم، وتتنافس برفقة وتضامن، ويكون النشاط المنتظم شرط عضويتها، وقراءة الواقع بدقّة بوصلتها نحو مسارٍ يفضي إلى الظفر.