اخر الاخبار

في الوقت الذي تُعلن فيه الجهات الحكومية نيتها توسيع مظلة الحماية الاجتماعية، تظهر مبادرات مثل إدخال الأطفال الجدد إلى البطاقة التموينية عبر "منصة أور" كأمثلة على التحديث الإداري والرقمنة. لكن خلف هذا الوجه الرقمي المضيء، تطفو على السطح أسئلة جوهرية تتعلق بالشفافية، الرقابة، والمصلحة الحقيقية للمواطن. المنصة، التي أُطلقت بتعاون بين وزارتي التجارة والاتصالات، تسوّق كأداة للحد من التزوير ولتبسيط الإجراءات، لكنها تثير شكوكاً مشروعة حول أمن البيانات، وسلامة الوصول إلى المعلومات الشخصية، وسط غياب واضح لأي ضمانات رقابية مستقلة. من الذي يتحكم فعلياً في هذه المنصات؟ وهل ان استخدام الرقم الوطني ورقم الهاتف الخلوي يوفّر حماية للمواطن، أم أنه يشكّل مدخلاً محتملاً للابتزاز وسوء الاستغلال؟!

في موازاة هذا، تأتي المقترحات الحكومية لرفع سن التقاعد إلى ما بعد الخامسة والستين، لتضيف طبقة جديدة من القلق العام. لم يعد التقاعد استحقاقاً طبيعياً بعد عقود من العمل، بل بات وهماً مؤجلاً. إنه قرار لا يمس فقط الحياة العملية، بل يعبث بمصير آلاف المواطنين الذين ينتظرون استراحة الكفّ بعد طول عناء. الأسوأ من ذلك، أن النقاش حول رفع سن التقاعد لم يُطرح ضمن رؤية شاملة أو حوار اجتماعي حقيقي، بل قُدّم كخطوة إدارية مرتبكة، وسط عزل نقابي يشي بخوف عميق من فقدان التأثير. النقابة ليست مجرد منصة احتجاج، بل هي صوت المتقاعدين في وجه السياسات الجائرة. دورها اليوم حاسم في الدفاع عن الحقوق، والتفاوض من أجل ضمان تقاعد كريم وعدالة اجتماعية. التشكيك - من قبل جهات حكومية - بها يضعف موقعها التفاوضي ويخدم من يسعون لتهميش صوت الناس. دعم النقابة هو دعم للعدالة وكرامة العمل.

أما الطامة الكبرى، والتي تمرّ تحت الطاولة، فهي زيادة الاستقطاع الشهري من رواتب الموظفين، بهدف تقليص العجز المالي لصناديق التقاعد. هذه الخطوة تعني، ببساطة، تخفيض الدخل الصافي للأجراء دون أي مقابل ملموس لتحسين أو ضمان معاش كريم. في ظل الغلاء وجمود الأجور، يُعد هذا عبئاً غير عادل. النقابات تدرك أن تمرير القرار بهذا الشكل يُهدد ما تبقى من ثقة قواعدها، ويضعها في موضع المتفرج بدل المفاوض.

المفارقة المؤلمة، أن تأجيل التقاعد لا يعني فقط إرهاق الموظف جسدياً ونفسياً، بل أيضاً سدّ الأفق أمام جيل كامل من الشباب الباحثين عن فرصة عمل. إنها وصفة للتجميد الإداري، ولخلق كتلة بشرية متعبة، عالقة في منتصف الطريق بين الأمل والتقاعد المؤجل. المواطن، الذي تحمّل آثار التضخم، وتراجع فرص العيش الكريم، يُطلب منه الصبر مجدداً، دون أن يرى إصلاحاً حقيقياً أو رؤية اقتصادية تستحق ثقته.

من هذا المنبر، أكَول: إذا كانت هناك نية للإصلاح، فلتُؤجل مقترحات رفع سن التقاعد خمس سنوات على الأقل، تُستثمر خلالها الحكومة في بناء مؤسسات رقمية شفافة، وتحسين جودة الخدمة العامة، وضمان مستقبل آمن للمتقاعدين. الإصلاح يجب أن يكون من أجل الإنسان، لا على حسابه. وكل مشروع لا يراعي كرامة المتقاعد، هو مشروع فاشل.. بل خطر على الاستقرار الاجتماعي ذاته.