في عتمة ما تنقله لنا الفضائيات ومواقع الإنترنيت، عن الحروب العدوانية وخراب البيئة وهيمنة اليمين الرجعي الاستبدادي، تبزغ كوى مفرحة من الضوء، تشير لتطور جماهيرية بعض أطياف اليسار وتبوئها مكانة أفضل في الحياة السياسية، كثمرة لتشخيص ومعالجة العديد من مشاكلها، سواء في مواجهة الأزمات أو في تمظهراتها الجديدة، كازدياد أعداد الجوعى والمشردين والعاطلين عن العمل وكإلغاء أو تقليص حقوقٍ للشغيلةِ، كانت تبدو راسخة.
ولعل من أول تلك الثمار، إدراك هذه الأطياف بأن العامل الذاتي، كان دومًا الدّفة التي تُمكِنها من الإبحار بنجاح في عالم الكفاح الطبقي، حيث أسرعت لإصلاح أية ثقوب في السفينة، جاءت جراء غياب القراءة الدقيقة للمتغيرات، أو الغفلة من خبث العدو الطبقي، أو التقادم الذي لم يُرصد في زحمة العمل والنوايا الصادقة. كما بحثت عن نقاط القوة الحالية وتلك التي جرى تثبيطها، وابتكرت صيغًا جديدة للبناء الحزبي، تيسِّر العمل اليومي وتحرر روح المبادرة وتطور القدرات السياسية والفكرية للأفراد، وحرصت على تحويل فض الاشتباك بين التقاليد المحافظة وبين عوالم التجديد، إلى قوة توطد وحدة الإرادة والعمل ولا تضعفها، متبنّية هوية أممية حديثة، تصمد في مقاومة شرور العولمة الرأسمالية، وتزيح عن الذاكرة الجمعية تلك الخطايا التي أثقلت تجارب التاريخ، فيما منعت بحزم تسلل أية أوهام تخدع النفس أو تدفع للاستغراق في متعة الحنين لماضي تليد.
وعلى صعيد السياسات التعبوية، تخلّت هذه الأطياف عن الصيغ التقليدية الجاهزة، وعمدت إلى رصد الرأي العام في كل قضية قبل اتخاذ أي قرار بصددها، والتركيز على إيصال ذلك إلى الناس في نشاط دعائي مكثف، لا يقتصر تنفيذه على وسائل إعلامها فقط، بل وعبر مساهمة أعضائها ومنظماتها القاعدية، التي تحولت إلى مجسات نشطة لمعرفة حتى الهموم الصغيرة للناس، ولدراسة مصالح أنصار الأحزاب التقليدية، من الفقراء والفلاحين والعمال المؤقتين والموسميين والأميين والعاطلين عن العمل والطبقة الوسطى، ولوضع البرامج التي تعّبر عن مصالح هؤلاء وبالتالي تجذبهم لضفة اليسار. ولكي تتمكن من إنجاز المهمة كان لابد أن تتحول المنظمات إلى أول محطة لاتصال الناس بالحزب، وأول من يقدم خدمات توعوية مجانية كالنصائح القانونية والصحية والعائلية والاقتصادية والتربوية لهم، وأن تركز على قضايا محلية محددة وجاذبة وتتجنب تشتيت القوى بميادين كثيرة وأكبر من قدرتها، مستفيدة من المريدين المتطوعين، دون أن تلثم استقلاليتهم أو تلزمهم بشيء غير الدفاع عن مصالحهم عبر الدعوة لبرامج الحزب وإشراكهم في معاركه النضالية في الشارع كالمظاهرات والاحتجاجات والتحشيد وكسب الأصوات.
وخصصت هذه الأطياف جهدّا متميزًا للتصدي إلى حملات التشويه وتضخيم الأخطاء، التي يشنها العدو الطبقي ضد مواقفها أو سياساتها أو تاريخها أو رموزها، وبعمليات مبرمجة تفضح أكاذيبه وتدحض ادعاءاته، بصبر وحكمة، ودون أن تُظهر الجزع من سماع الآراء المخالفة أو تتردد في ممارسة النقد الذاتي، بشفافية وجرأة وبمستوى يزيد من مصداقية اليسار.
ولم تستهلك هذه الأطياف الكثير من طاقتها في تحقيق وحدة يسارية على أهميتها، بل جعلت ذلك أحد أهدافها، بعد أن أدركت بأنه ورغم وضوح الأهداف المشتركة كالديمقراطية والعدالة الاجتماعية والدفاع عن السلام والبيئة وحقوق المرأة، والتي توفر أرضًا خصبة لوحدتها، لم يكن سهلًا التعاون بين أجنحة اليسار المختلفة لبناء بديل من الكتلة الشعبية، دون أن تتخلى عن بذل المزيد من الجهود لتحقيق ذلك، وبالتوازي مع توطيد أركان البناء التنظيمي وتوسيع القاعدة الجماهيرية.
في تقدم هذه الأطياف فرح كثير وعبر أكبر وأمل بنجاحات متواصلة.