اخر الاخبار

استعير من زميلي الصحفي والشاعر والفنان يحيى البطاط فكرة مقالة له، فازت بجائزة دبي للصحافة عام 2010، يوم كنا نتشارك العمل الصحفي هناك، وكانت بعنوان " المسودة .. صيغة أخرى للحياة".

وقد استهلها بالقول: "تبدو المسودة ببساطة نموذجا صارخا لفشلنا في إدراك الكمال. إنها سجل حافل بالنقصان، والإحباط الذي يلوح في كل كلمة نكتبها، وكل خطوة نحياها. لذا تفرض المسودة نفسها، وتستحوذ على اهتمام الكاتب والقارئ معا، بدرجة لا تقل عن اهتمامهما بالصيغة النهائية للكتابة، التي تسمى "المبيضّة" نكاية بشقيقتها السوداء.

ويضيف: سلطة المسودّة في نقصانها

وسلطة المبيضّة في وَهْم اكتمالها..

ويسرد المقال أمثلة محلية وعربية وعالمية على ما تمثله كتابة المسودة لكبار الكتاب والشعراء، والتي تُعد في عالمنا العربي أمرا عاديا وثانويا لا احد يأبه له، مثلما تلقى مسودات كتاب الغرب وشعراؤهم من تقييم مادي ومعنوي كبير. فقد بيعت مسودة رواية "يوليسيس" للكاتب الايرلندي جمس جويس، مثلا، مقابل 1,7 مليون دولار، وبيعت مسودات رواية "مائة عام من العزلة" للكاتب الكولومبي ماركيز بنصف مليون دولار.

تمثل لي المسوّدة، وقد سوَّدتُ بها عشرات الدفاتر التي جالت معي بلدان غربتي من دولة لأخرى، بداية للفكرة، أو لنقل الشروع بتمرين الكتابة والتهيؤ لها، كمن يبدأ السباحة عند شاطئ البحر قبل الغوص فيه. ففيها رؤوس أقلام و"شخابيط" قد لا تصلح للاستفاضة، وتلمع فيها في الوقت نفسه أفكار أعجَب لها، وأفاجَأ بها عند إحالتها للمبيضّة.

ما زلت أكتب أفكاري بمسودة ورقية في الغالب، ثم انقلها إلى سطح الحاسوب، الذي تلهمني حروفه الضوئية أحيانا إضافات تستدرج أفكارا لآفاق جديدة لم تخطر على البال.

وعدا الكتابة الصحفية أو الأدبية، يلجأ الكثير منا الى الورقة والقلم لتدوين ذاكرته بأحداث أو أرقام ( قبل أن يبددها النسيان). وهذه الجملة هي عنوان الكتاب الذي صدر للبطاط عن دار الشؤون الثقافية في بغداد أخيرا، وضم المقال المذكور .

وللأرقام سطوة الواقع الجامد أكثر من غيرها، وقد لا تتحمل الخطأ أو التأويل مثل غيرها، لذا نستعين بها خشية الوقوع في الخطأ.

لكننا مع ذلك نخطأ على الدوام، بل لا معنى للحياة دونها، ومن الذي سيحدد بالضبط والدقة الخطأ والصح؟

متعتنا الأثيرة ربما تصحيح ما وقعنا فيه من أخطاء كارثية، ومواجهتها قدر الإمكان بشجاعة كافية، وصراحة واضحة، وبوح صادق. حينها فقط ربما نتخلص من آثامها التي تؤرقنا.

مرةً سألت صحفية الشاعر الأرجنتيني بورخيس: لماذا تنشر أعمالك؟

أجاب : "أنشرها حتى لا أبقى طوال حياتي أصحح المسودات".