اخر الاخبار

في جلسة أخرى مع الشباب كان عليّ أن اتحدث عن تعريف ماركس للرأسمالية من أنها نظام اقتصادي محكوم عليه بالفناء، جراء اعتماده على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وعلى العمل المأجور، حين تضطر الطبقة العاملة لبيع كل ما تملك - قوة عملها - لتستمر في الحياة، وقيامه على الظلم الأكبر حيث يستغل رأس المال قوة العمل هذه فينهب فائض القيمة الذي تخلقه، وعلى اللاعقلانية حين يؤدي السعي الدائم للربح إلى زيادة الانتاج وخلق تراكم غير محدود من فائض القيمة يفضي للركود ولأزمات اقتصادية دورية ولتركز الثروة في يد اقلية يتناقص عديدها كل يوم، وأخيراً على الطبيعة غير الديمقراطية لهذا النظام بسبب غياب تام للمساواة الاجتماعية فيه.

ورغم إن الشباب اتفقوا معي على الفناء الحتمي للرأسمالية، ذكروا بأنها ماتت سريرياً أو تكاد، بعدما دخلت طوراً جديداً يمكن تسميته بالإقطاع التقني. ففي هذا الطور هدم رأس المال الرقمي السحابي (وهو الأموال القادمة من فوق السحاب في عالم الرقمنة)، الركيزتين التقليديتين للرأسمالية، الأسواق والأرباح، محوّلا الأولى من وسيط ومنافسات إلى منصات تداول رقمية تبدو وكأنها أسواق، لكنها في الحقيقة إقطاعيات، ومستبدلاً الثانية وهي الربح بالريع.

وقد أدى ذلك إلى انتقال القوة الحقيقية من أيدي مالكي رأس المال التقليدي (الآلات والمباني والطرق وغيرها) إلى اقطاعيين يسيطرون على رأس المال السحابي ويحتكرون الخدمات والشبكات والبيانات والقواعد والمنصات وحق الوصول اليها. كما تغّير رب العمل من رأسمالي، مسؤول عن صيانة حياة العمال ليبقوا صالحين للاستغلال، إلى روبوت صناعي، يتعامل معهم كأقنان، في إقطاعية تكنولوجية. أما نحن الأقنان المعاصرين، فما عدّنا قادرين على العيش خارج منصات الإقطاعية، التي لا نملكها وإنما نستأجرها لنعمل فيها، فيعيد أصحابها تنظيم سلوكنا الاستهلاكي وأوقات فراغنا، بل ويعيدون انتاجنا، زبائن وعاملين، كموارد يمكنهم تدويرها وتحفيزها.

وأشار الشباب إلى أن ما يحدث يفضح بقوة الأكذوبة التي تقول بأن النمو الرأسمالي هو المصدر الوحيد للرفاه وأن علينا إنهاء المنافسة وتوفير أفضل الظروف الممكنة للاستثمار، لأن ما نعيشه هو نتاج كارثي لإطلاق العنان للأسواق المالية، وتخفيض أو الغاء الحقوق الاجتماعية، وخصخصة المؤسسات العامة، وتسليع كل شيء بما في ذلك البشر وقيمهم الثقافية، وتغيير التوازن السياسي لصالح الشركات فوق القومية، وتغييب دور شعوب الأطراف، بالقوة، عسكرية كانت أم ثقافية.

وكما هو جليّ، فقد ساعد ذلك كثيراً الإقطاع التقني على نشر أنماط الإنتاج والاستهلاك والطلب على المواد الخام والأراضي وأماكن طمر الملوثات، والعمال الذين يقومون باستخراج المواد الخام وإنتاج الغذاء الرخيص، مما فاقم باستمرار التوترات الطبقية والبيئية داخل الدول الصناعية وبينها وبين شعوب الأطراف.

وقبل أن أقلّب الفكرة لأعرف ما إذا كان الأقطاع التقني مرحلة رأسمالية أعلى من الإمبريالية أم تجلياً جديداً لها، لم يترك رفاقي الشباب الأفق مغلقاً، بل كشفوا لي عن الكثير مما على اليسار فعله في الصراع مع هذا الإقطاع التقني، سواء في مواجهة علاقات الإنتاج الجديدة واتفاقيات التجارة الحرة وخصخصة شبكات الطاقة، أو في النضال من أجل العدالة المناخية، "فلا بيئة بدون البشر ولا بشر بدون بيئة"، وتيسير وصول الجميع لتكنولوجيا الرقمنة، وإقامة مشاريع تعتمد على التعاون المجتمعي، وتخفيض ساعات العمل، وفرض قوانين واضحة على الاقطاعيات الرقمية ذات السيطرة شبه المطلقة على البنية التحتية والبيانات والأسواق وبعض جوانب الحياة الاجتماعية، وقيادة المجتمع لكسر هذه الهيمنة وإرغامها على إعادة توزيع الإنتاج. وللحديث بقية.

عرض مقالات: