لا أدري ماذا يكمن وراء هذا الميل الأصيل لليسار الذي يغلب على بناتنا وأبنائنا، فكراً وثقافة وفاعلية، أهو سبب جيني أم غذاء تربوي أم أحاسيس نابعة من تقليد حميد لمواقف الكبار الرافضة للظلم والتمييز. لكنه كان لي على أية حال، نبع فرح لبقاء الراية مشرقة، ودهشة من تقادم بعض تفاصيلٍ تبنيناها وراحت تشترط التجديد.
ربما لحسن حظي، أقحمني شباب من معارفي في حواراتهم الفكرية فأنعشوا بذلك الروح. أتذكر بأني وفي إحدى تلك الحوارات حول مفهومنا للدولة، انهمرت بالحديث عن أن ماركس، الذي يعود له الفضل في التعرف على التاريخ كحصيلة لصراع دائم بين الطبقات، هو من كشف عن أن الدولة هي جزء من البنية الفوقية مرتبطة بعلاقات الانتاج السائدة وأداة بيد الطبقة المهيمنة، وهو من رسم خارطة طريق يستعيد بها البشر آدميتهم عبر تبديد الملكية الخاصة التي ولد عنها العمل المأجور وتحويلها لملكية جماعية وصولاً إلى اختفاء الدولة.
الهدوء الذي رد به الشباب على تثاقفي المتعالِ كان مذهلاً، فماركس برأيهم لم يتحدث عن زوال دور الدولة في إدارة الأشياء، بقدر حديثه عن زوال وظيفتها السياسية في التحكم بالبشر، بما في ذلك حين دعا لاستيلاء الطبقة المقهورة على أداة القمع واستخدامها للقضاء على علاقات الإنتاج الاستغلالية، وللتنظيم والتخطيط والتحكم بالاقتصاد. وعندما أجبت غاضباً، بأنه اشترط أن تسود الديمقراطية هذه الفترة الانتقالية، فدكتاتورية البروليتاريا، هي سلطة الأغلبية الساحقة من الناس، رأوا بأن هذا الحلم النبيل للوصول إلى المجتمع اللاطبقي، لم يتحقق حتى بعد استنفاد هذه الدكتاتورية لدورها وتحول الاتحاد السوفيتي، نظرياً، إلى دولة للشعب بأسره.
الدولة برأيهم لم تعّد مرادفة للحكومة، بل هي نظام يشمل السلطة والبرلمان والخدمة العامة والقضاء والقوات المسلحة والمؤسسات الدينية والتربوية والإعلامية. ورغم إن أغلبية المتنفذين في كل هذه الحقول هم من البرجوازيين الذين يقومون بتوزيع الثروة بطريقة غير عادلة، فإن هذا النظام ليس مجرد انعكاس مباشر للمصالح الرأسمالية، بل هو ساحة صراع طبقي يُعبَّر فيها عن التوازنات المرحلية بين مختلف الطبقات.
إن هذا النظام يتمتع بنوع من الاستقلال النسبي عن الطبقة المسيطرة، حتى وهو يميل لحماية مصالحها وإعادة إنتاج هيمنتها، ليس بالعنف فقط بل وبالأيديولوجيا أيضا. وتأتي هذه الاستقلالية من مصادر ثلاثة، التوق الرأسمالي لإبعاد الدولة عن عمليات الاقتصاد وبالتالي انفصالها واستقلالها، والتناقض العميق بين السلوك التنافسي الأناني الذي تسلكه البرجوازية للسيطرة على السوق وبين السلوك السياسي الجماعي الذي تشترطه ادارة "مستقلة" للدولة، والحاجة لجهة "محايدة" تضمن التماسك الداخلي للأنماط الإنتاجية المتعددة والمتعايشة اليوم في الاقتصاد الرأسمالي. وجراء ذلك يتطور شكل من أشكال الدولة يحافظ على سلامة النظام الاجتماعي، مما يجعلها أداةً محتملةً للتحول الثوري، أو عاملًا مساعداً في إقامة علاقات إنتاج جديدة، تضمن استيلاء المنتجين أنفسهم على وسائل الإنتاج.
ويستشهد الشباب على ذلك بما حققته الشغيلة جراء الصراع الطبقي من تغييرات في شكل الدولة، سمح لها بتحقيق مكتسبات كبيرة، بحيث لم يعد في صالحها الآن تحطيم جهاز الدولة دفعة واحدة، وإنما الأجدى بها النضال لإغناء محتواه والاستفادة منه لانتزاع المزيد من المكاسب، وصولاً لإبعاده كلياً عن مخالب المستغِلين. ولهذا، تشتد الحاجة للنضال من أجل خلق ظروف تكون فيها الحقوق والحريات الديمقراطية مرتبطة بالعدالة الاجتماعية وبحماية البيئة وبالأشكال المتجددة للإدارة الذاتية. فهذا التطوير التدريجي لشكل الدولة، سيؤدي بالضرورة إلى اضمحلالها مصداقاً لما قاله ماركس. وللحديث بقية..