إذا ما نُظر إلى الادخار والاستثمار من زاوية استباقية في العملية التخطيطية، فإنهما قد لا يتساويان بالضرورة، مما أثارا جدلًا واسعًا بين رجال الفكر الاقتصادي بسبب وجود متغيرات عديدة في الاقتصاد تترك آثارها على هذين المفهومين، ولا سيما الدخل، حيث إن مستواه يؤثر على دوال الادخار والاستثمار. وخلاصة الموضوع فإن الادخار يُقصد به عدم الاستهلاك الجاري. فيما يُعرف الاستثمار بكونه صافي الإضافة الحاصلة على مجمل ثروة المجتمع التي تتحقق في حال عدم استهلاك الدخل الجاري، وكلما زاد الاستهلاك فإن الادخار (الاستثمار) سيقل. وهذا هو المنطلق الذي طالما أوضحه الكثير من الاقتصاديين العراقيين بأن الطابع الاستهلاكي للمجتمع العراقي يترك أثره السلبي على عملية الادخار وبالتالي الاستثمار، مما يؤثر على معدل النمو الاقتصادي.
فما هو الأثر الذي يتركه الاكتناز بالنسبة إلى المقدمة المبينة أعلاه؟ إن ظاهرة الاكتناز كانت موضوعًا شاغلًا للاقتصاديين العراقيين خلال العقدين الماضيين، وسبب إثارة هذا الموضوع يرجع إلى غياب التوازن في الاقتصاد العراقي والدور الضعيف لقدرة الجهاز المصرفي في اجتذاب الكتلة النقدية المكتنزة التي يجري التعبير عنها في لجوء الكثير من العراقيين إلى الاحتفاظ بأموالهم في إحدى زوايا منازلهم أو تحت الأرائك أو مدفونة في أكياس بلاستيكية مدفونة في ملابسهم القديمة دون إدراك مخاطرها بهذه الطريقة من خلال السرقة أو الحريق أو بأية طريقة من الطرق.
لكن هذا الهلع في اتباع هذا الأسلوب لم يأتِ عن رغبة في إمتاع نظرهم بهذه المليارات من الدنانير، وإنما لم يجدوا في الجهاز المصرفي الذي يصل إلى 81 مصرفًا أهليًا و7 مصارف حكومية، ملاذًا آمنًا لأموالهم، بل عبئًا من الإجراءات تتمثل بتأخر التحويلات وانعدام الثقة، فضلًا عن تأكل قيمة العملة، وتزداد هذه الظاهرة اتساعًا وسط أزمة سيولة تخنق اقتصاد البلاد في ذات الوقت الذي تواجه الحكومة العراقية تحديات كبيرة في إدارة السيولة النقدية بالدينار، كما تتجلى فقدان ثقة المواطنين بالمصارف العامة والخاصة بإعلان إفلاس بعض هذه المصارف وما يترتب على ذلك، فضلًا عن سوء إدارة هذه الأموال عبر الأنشطة الاستثمارية في مشاريع اقتصادية تأتي بالفائدة للمودعين وتنمية الاقتصاد في نفس الوقت، وأكثر من ذلك فقد عانت المصارف العراقية في الفترة الأخيرة من عقوبات صارمة، بعضها جاءت من البنك المركزي ضد خمسة من المصارف الأهلية عبر منعها من إجراء المعاملات بالدولار الأمريكي في إطار الجهود المشتركة بين وزارة الخزانة الأمريكية والبنك المركزي لمكافحة غسيل الأموال وتهريب الدولار والانتهاكات المالية، وقبل ذلك فرضت وزارة الخزانة ذاتها العقوبات على 14 مصرفًا عراقيًا بسبب الشبهات بحكم هيمنتها على نظام سويفت الذي ينظم حركة التحويلات النقدية بين المصارف العالمية بحجة أنها هي المسؤولة عن تصدير الدولار ومن حقها مراقبة حركته كي لا يقع بأيدي المنظمات الإرهابية أو عمليات غسيل الأموال، وبالتالي فإن كل هذه الإجراءات أربكت عمل النظام المصرفي وأثرت على حركة الدولار وخلقت بيئة تزيد من انعدام الثقة في لجوء الناس إلى الادخار، على أننا لا ننزه العديد من المصارف الأهلية العائدة لأحزاب حاكمة.
وبدلًا من مراجعة شاملة للسياسة النقدية واجتذاب الأموال المكتنزة التي تشكل 87 في المائة من إجمالي الكتلة النقدية أي ما يعادل 95 تريليونًا من أصل 109 تريليونات، وترسيخ عنصر الرغبة لدى المواطن من خلال رفع أسعار الفائدة بما يتناسب مع الفوائد التي تجنيها المصارف من خلال القروض للمواطنين والشركات الاستثمارية، يلجأ البنك المركزي إلى تثقيف المواطنين عبر تحذيرهم من أن الأموال المكتنزة تنقل الفيروسات والبكتيريا بما فيها جائحة كورونا!
ومن بين الإجراءات الشاملة التي تم الإشارة إليها التطبيق الحي للقوانين والتشريعات، وخاصة قانون مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، إضافة إلى التحقق من الكشف الكامل عن مصادر الأموال المودعة، وخاصة الأرقام الفلكية، عبر اتباع إجراءات اعرف عميلك (KYC) وإطلاق أدوات استثمارية تتسم بالمرونة تحقق الثقة للمودعين، وهي كفيلة باستقطاب الأموال المكتنزة وإدخالها إلى الدورة الاقتصادية إسهامًا في الاستقرار الاقتصادي وتوفير فرص العمل.