يبدو أن انتقادات الخبراء الاقتصاديين تعيد نفسها مع كل عام يتأخر فيه إعداد الموازنات السنوية، ويبدو أيضا أن الموازنة الثلاثية التي ابتدعتها الحكومة لمعالجة ظاهرة التأخير لم تحقق الهدف المنشود لمعالجة تلك الظاهرة وتداعياتها تأخر المشاريع الاستثمارية وقرينها الخلل في التزامات الحكومة خصوصا عندما تقدم الموازنة إلى مجلس النواب وهي خالية الوفاض من الحسابات الختامية التي تمثل الأداة المثالية للكشف عن الانحرافات في تنفيذ الموازنة كما خطط لها وغالبا ما يعزوه خبراء المال إلى نظام المحاصصة والتجاذبات السياسية.
يؤكد خبراء الاقتصاد أن عدم تقديم الحسابات الختامية مع مشروع قانون الموازنة السنوية مخالفة صريحة للمادة 62 أولا من الدستور فأهمية الحسابات الختامية تكمن في التأكد من النسب المتحققة من تنفيذ الموازنة السنوية السابقة ومدى الانحرافات وجوانب الإخفاق في مشاريع الموازنة الاستثمارية فضلا عن الموازنة الجارية كما أن ملاحظات ديوان الرقاب المالية المكلف بتدقيق الحسابات الختامية المقترنين معا يمكنان مجلس النواب من مقارنة ما يرد فيهما مع مشروع قانون الموازنة العامة ويساعد في تصويب التخصيصات المقررة للموازنتين الجارية والاستثمارية.
إن مجلس النواب وهو السلطة التشريعية المخولة بإقرار الموازنات السنوية بعد إرسالها من الحكومة، ويعرف المجلس أن إقرار هذه الموازنات يتطلب تنفيذ المادة الدستورية 62/ أولا التي تلزم تقديم الحسابات الختامية التي تعدها وزارة المالية مع هذه الموازنات بدون تجزئة وليس هنالك محل للاجتهاد في تفسيرها او الاجتهاد فيها ولو افترضنا من باب الجدل ليس إلا، أن لهذا النص الدستوري إمكانية الاجتهاد فكيف يجوز الامتناع عن تنفذ قرار المحكمة الاتحادية الصادر عام 2023 باعتبار أن قراراتها ملزمة لكافة السلطات وفقا للمادة 94 من الدستور، لكن وزارة المالية تصرح أنها قد أنجزت الحسابات الختامية لسنتي 2017 و2019 واصفة إياها بالإنجاز غير المسبوق مع العلم أنها سبق أن أنجزت هذه الحسابات لسنتي 2012 و2015 ولكن هل يتوافق هذ الإنجاز مع النص الدستوري أو قرار المحكمة الاتحادية إن لم يجر تدقيق هذه الحسابات من قبل ديوان الرقابة المالية؟
إن الحسابات الختامية والتقارير المرافقة لها تظهر على وجه اليقين وحسب قانون الإدارة المالية والدين العام رقم 95 لسنة 2004 المعدل، الفوارق بين إيرادات الميزانية المتحصلة والنفقات من جهة وبين تمويل العجز واستخدام الفائض، كما تظهر القروض السنوية للحكومة الاتحادية وقروض الحكومات الإقليمية والمحافظات والحكومات المحلية فضلا عن الضرائب والمساهمات الاجتماعية والمنح والإيرادات الأخرى بما فيها مبيعات النفط وبيع الموجودات غير المالية بالإضافة إلى السلف ما سدد منها وما لم يسدد، وبعبارة أخرى فإن تقارير الحسابات الختامية تستهدف إظهار الوضع المالي للدولة، وهذا ما لم يتحقق في كافة الموازنات العامة التي شرعها مجلس النواب على امتداد دوراته السابقة، فهل نستطيع القول إن الوقوعات المالية للدولة ذهبت مع الريح ومعها ذهب المتسببون في الهدر المالي والفاسدون الذين لم يكونوا أفرادا على عدد اصبع اليد بل أخطبوطا فوق دائرة الحساب والعقاب.
وعلى سبيل المثال أظهرت الجداول في الموازنة المقترحة لعام 2023 أن مقدار النفقات الاستثمارية تصل إلى أكثر قليلا من 54 تريليون دينار وقد تصل إلى 55 تريليون دينار وتشكل 26 في المائة من مجموع إيرادات الموازنة وهي ذات النسبة في الموازنات السابقة، ما يعني أن عملية التنمية ما تزال تسير ببطء ويظل الاقتصاد العراقي منكمشا على ذاته. وارتباطا بهذا الاضطراب في الإنفاق الاستثماري فقد ظهر أن تخصيصات البرامج الاستثمارية للمحافظات قد بلغت 10.633 تريليون دينار في موازنة عام 2023 مول منها مبلغ مقداره 3.333 وبقي من إجمالي التخصيصات 7.333 تريليون دينار ما يعني أن ثمة مؤشرا لفوارق كبيرة بين موازنتي 2023 و2024 فكيف سيصار إلى معالجة هذه الفوارق وهنا تظهر أهمية الحسابات الختامية للعام المذكور في الكشف عن آلية الإنفاق وكيفية تطبيق المبادئ الحسابية في الجهاز الحكومي ومواطن الخلل لتصويب هذه الهفوات الخطيرة في السنوات اللاحقة.