اخر الاخبار

ظمأ فقيه وهو يزور صديقه، فتناول كوزاً وشرب، قبل أن ينهيه مضّيفه، فالكوز مليء بالخمرة التي جلبها غلامُ الرجلِ من خمّارة الحيّ. ضحك الفقيه وقال لصاحب الدار "ومن قال إنها ليست ماءً. لقد شربتها لضعف الإسناد، فكيف لي أن أصّدق غلامك الرومي عن خمّار"!

تذكرت هذه الطرفة التراثية وأنا أستمع لسيل المزاعم التي يبرر فيها المتنفذون فشلهم في حل مشاكل البلاد المعقدة، وفي مقدمتها نهب عشرات المليارات من المال العام في أضخم عمليات فساد، كجولات التراخيص وعقود الكهرباء والاتصالات ونافذة العملة وغيرها، وتغييب معايير المواطنة بتفضيل الفاشلين الموالين على الكفوئين، وتقسيم فرص العمل والعطاء وفق الإنتماءات الفرعية، وإبقاء الاقتصاد الوطني أسير الريع النفطي واهمال الإنتاجين الزراعي والصناعي الذين لم يعودا يمثلان سوى 4.8 و 1.8 في المائة من الناتج المحلي على التوالي، وهو ما أجبر نصف الفلاحين على الهجرة من الريف، وعطّل ثلثي المعامل الحكومية وحصر القطاع الخاص في مساحة لا توفر غير 10 في المائة من فرص العمل المطلوبة، في بلد وصلت فيه نسب البطالة بشكل عام إلى 16 في المائة وبين شبابه إلى 40 في المائة.

كما صار الفشل في قطاعي الصحة والتعليم، الذين لم يخصص لهما في الموازنة غير 4.4 و7.5 في المائة على التوالي، دليلاً صارخاً آخر على عجز الحاكمين، نجده بيّناً في تخلف الرعاية الصحية الحكومية والغلاء الفاحش في المستشفيات الأهلية والارتفاع المريع في أسعار الأدوية والمعدات، وفي الخصخصة الفاشلة للجامعات وتراجع المستوى العلمي والبيئة التحتية للعملية التربوية. وتستكمل صور هذا الفشل بالعجز عن حل مشكلة السكن، التي دفعت بسبعة ملايين عراقي للعيش في عشوائيات تفتقد لظروف معيشة آدمية، وبتبلور تفاوت طبقي لا سابق له، حيث يعيش 12 مليون عراقي عند مستوى الفقر، ومثلهم دون ذلك المستوى، مقابل وجود 16 ألف مليونير وعشرات المليارديرات.

وأتذكر ضعف الإسناد أيضاً حين أسمع حديث المتنفذين، عن الإصلاح وعشقهم للتغيير واستعدادهم لإفتداء حرياتنا وحقوقنا "بالروح والدم"، لاسيما حين تشتد أزمة منظومتهم ويتنامي الحراك الشعبي ضدها، وتقترب مواعيد الإستحقاقات الإنتخابية، فأُدهش من استغراقهم في الوهم معتقدين بأن انشغال الناس بهمومها المعاشية الصعبة، سيمكنّهم من تسويق بضاعتهم، خاصة حين يخفون قبحها بشعارات التغيير.

ولهذا، وبعيداً عن التجني، فإن المنظومة القائمة على منهج البناء المكوناتي للدولة والتي تفتقد لثقة 80 في المائة من الشعب، لم تعد جديرة بالبقاء، ولابد من التغيير الشامل، الذي يجب أن يُفضي إلى إصلاح جهاز الدولة باعتماد مبدأ المواطنة ومعايير الكفاءة والنزاهة، ونبذ المحاصصة الطائفية والإثنية والتمييز، وتطوير آليات العمل الإداري، والقضاء على الفساد واسترجاع الأموال المنهوبة، وضمان الأمن والاستقرار وحصر السلاح بيد الدولة وبمؤسساتها الشرعية، وتطبيق قانون الأحزاب السياسية واصلاح المنظومة الانتخابية وتطهير الأرض من المحتلين واعتماد سياسة خارجية متوازنة، وتعزيز البناء الاتحادي للدولة، واحترام حقوق الإنسان، وضمان الحريات الشخصية والعامة، وتبني وانجاز استراتيجية تنموية مستدامة.

وإذا كانت أغلبية جماهير الشعب تجد في مشروع التغيير الشامل هذا، والذي طرحه الحزب الشيوعي العراقي، بوابة للخلاص، فإنها مدعوة للتخلي عن سلبيتها ونبذ العزوف عن المشاركة السياسية المباشرة، ودعم القوى الوطنية المؤمنة بالتغيير، والمدّعوة هي الأخرى لتوحيد الصفوف وإذكاء حراك شعبي، ذي أبعاد احتجاجية في الشوارع والمصانع والمزارع والمحلات والجامعات والمؤسسات الثقافية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، وتبني الحراك الانتخابي والبرلماني، حلقة نضالية مهمة، تعيد الأمل بغد زاهر لعراقنا الجميل.

عرض مقالات: