اخر الاخبار

خصصتُ، وكما اعتدت في كل عام، سويعات من يوم الشهيد الشيوعي، لأحاور صحبي الذين غادروني نحو سماء بقت تزهو بهم، ولاستمد من حلاوة الكحل ومفردات النغم التي تضّج بها أرضي المنقوعة بالدم، ما يبقيني عليها فخوراً. غير أن لزمن التواصل الاجتماعي أحكامه، فقد اقتحمت خلوتي مواد عن العراق وهمومه، منها ما هو موضوعي وصادق، ومنها ما كان ينضح بما يستبطنه كاتبه من غلِ وزيف.

ولم أدهش حين وجدت بعضها يستهدف الحزب الشيوعي العراقي، ماضيه وحاضره، فهذا "فهيم" يندب حظه لأن الحزب تمّكن رغم الجراح من تجديد نفسه، قيادة وكادراً وبرنامجاً وتنظيما، وذاك "كويتب" عُميت عيناه فلم ير منشورات الحزب حيّة وتُزهر في كل مدينة وقرية، ولا رأى كيف هرع عتاة الغربيين الى "رأس المال" علّهم يجدون فيه حلاً ما لأزمات أنظمتهم. وثالث أحرق حقدُ الحسدِ حشاشته، وهو "يؤرخ" لصمود الشيوعيين وتحديهم لآلات الموت والتعذيب الشنيع دون أن يتخلوا عن قيمهم، فراح يدّف السم في العسل، ويلوم الضحايا على ما اجترحوه من مآثر.

لم أدهش، لأني اعتدت أن أنتظر تصاعد نشاط هؤلاء كلما حقق الحزب ومعه كل القوى الوطنية، نجاحات على صعيد تشخيص طبيعة الأزمة الشاملة التي تعاني منها منظومة المحاصصة، وتبنى مشروعاً متكاملاً للتغيير الشامل، تحّل فيه الهوية الوطنية محل التكوين المكوناتي وتُصّان فيه السيادة، وتُضمن به الحريات والعدالة الاجتماعية وتُحمى به الثروة الوطنية لتُستثمر في خدمة تنمية مستدامة.

كما لم يدهشني توقيت هذه الحملات، فقد جاءت لإيقاف نمو الوعي الجمعي ولتخريب الجهود التي يبذلها الحزب من أجل تعبئة قوى التغيير وتوفير الشروط الضرورية لإنجاح الإنتخابات البرلمانية المرتقبة وتحشيد الجهود لتحويلها الى محطة رديفة للحراك الشعبي.

الاّ إن ما يبدو غريباً لي، إصرار هؤلاء ومموليهم على تكرار الحملات بذات المفردات البائسة، رغم قناعتهم بأن لا أحد قادر على أن يهزم هذا الحزب، ليس بسبب صحة سياساته وصواب أفكاره فحسب، بل وجراء تلاحمه مع الناس، الذين فتح لهم طريق الخروج من المتاهة نحو جمال الأنسنة، مذ فتح في بيوت الطين والقصب، نوافذ للشمس والهواء.

فليكفوا إذن عن هذا الهراء، فسّر صمود الشبيبة الشيوعية، التي يتباكون على تضحياتها، أصعب من أن تفهمها عقولهم، التي ستعجز حتماً عن إدراك علاقة الناس بمن جمع نثار أرواحهم من هباء الهشيم وصقلها اقتداراً، وبمن فتح لهم كوى من الضوء تنجيهم من عتمة الاستغلال والاضطهاد وتُغني أرواحهم بما يعوزها من جذوة الفرح. كما لا يمكن لهؤلاء أن يتساموا ليفقهوا قيم الوفاء التي جُبلت عليها هذه الشبيبة، مذ ارتوت من زلال الرفقة والتضامن، وتحول الحنين المشتعل في عروقها، تعويذة لبلاد أُسكنوها حدقات العيون حتى لم تعد تبصر غير أفق من يقين.

إن سر صمود الصبايا والفتية في زنازين الطغاة، دون أن تسقط من أكفهم راية الفقراء يكمن في هذا الفضاء الذي بقيّ به الحزب أبهى وأفتى، وبقيّ الشيوعيون ناصعي السريرة، يرممون ماهشمه البغاة من أحلام العراقيين، ويتفاعلون باحترام وبصبر المتعلم مع كل القيم الحضارية والمعتقدات الروحية لمواطنيهم ويتقاسمون معهم مبادئ العدالة والخير. ولهذا أيضاً كانت مشاركتهم في العملية السياسية شكلاً نضالياً لإنهاء الاحتلال ولبناء نظام ديمقراطي فيدرالي، شكلاً فرضته وقائع التطور السياسي والخلل المتواصل بموازين القوى. ولهذا أيضاً بقيّ الشيوعيون يواصلون درب التغيير.

وأخيراً، وكما بقيّ الحزب للناس نبضاً، بقيّت هذه الواضحات ممتنعة على فهيم وكويتب وجلاد متقاعد وعلى أسيادهم!