اخر الاخبار

ما الذي أبقى ماركس حياً؟ هل لأنه كان أعظم ملهم للبروليتاريا وأول من أدخل التنظيم السياسي لصفوفها، أم لأنه الرجل الذي اكتشف قوانين التطور الاجتماعي وحدد بالتفصيل مسار نشوء الرأسمالية، سواء باقتلاع الفلاحين من أراضيهم أو بتراكم رأس المال أو بنشوء الطبقة العاملة الحديثة، أم لأعماله النظرية التي أثبتت السنوات صواب أغلب ما انطوت عليه؟

في كل يوم تتغير الإجابات وتتسع الرؤى بين اليساريين، الذين باتوا يجْمعون على أن راهنية ماركس إنما ترتكز لإجاباته المعرفية المتماسكة على الأسئلة التي طرحها بعمله النظري، والتي صارت محفزًا للتفكير والابتكار، على طريق تغيير العالم وتحرير البشرية من الخوف والعنف والكراهية والجوع.

لقد عرفت البشرية بفضله سبب تغير دوافع عملها من إنتاج خيراتِ تنتفع منها، إلى إنتاج سلعٍ تحقق الربح لمالكي رأس المال، بغض النظر عن ظروف العمل القاسية وموت الآلاف من العمال، والتفاوت المخيف في مستويات المعيشة بينهم وبين الرأسماليين. كما تعلم اليساريون من مساهماته بكل الفرص الثورية، مشجعاً ومخططاً وموقداً، كيف تُستخلص الدروس الثمينة من النجاحات والخسارات، دون التخلي عن جذوة التفاؤل والثقة بقدرة القوى المنتجة على التغيير.

وإذا بررت العاطفة لبعضنا أن يرى كل تنبوءات ماركس صحيحة، فإن أغلبنا بات يعي بأن ما لم يثبت صحته لدى الرجل، يُدرك تعليله باستخدام ذات المنهج الذي رسمه هو بنفسه. فمن خلال تأكيده على أن حدوث التغيير الاجتماعي مشروط باستحالة احتواء القوى المنتجة داخل علاقات الإنتاج القديمة، لاسيما حين تتحول لقيود تعيق تطور تلك القوى، صار ممكنا فهم قدرة الرأسمالية على التكيّف مع أزماتها. كما أن إشاراته إلى أن الطبقات ليست أشكالاً ساكنة بل جماعات اجتماعية تظهر إلى الوجود بعمليات تاريخية وتمر بمراحل مختلفة من النمو والنضج، وفرت تفسيراً لاتساع الصراع بين البرجوازية والبروليتاريا، ليصبح صراعاً بين الشعب كله وبين النظام الرأسمالي القائم على استغلال الأجر والعمل، والذي ستختفي بانتهائه الطبقات.

ولهذا، نحن لا نكابر حين نقول إننا نوقد من قبس ماركس، شمعة نضالنا لاستبدال المجتمع البرجوازي بالمجتمع الإشتراكي، في مرحلة طويلة من النضال ضد اللامساواة ومن العمل على توزيع عادل للثروات. وأننا نبقى شهوداً على صحة تشخيصاته لما تمور به المجتمعات من صراعات طبقية عميقة، من استقطاب شديد في السلطة والنفوذ والدخل، بين نفر يملك كل شيء وجموع تفتقد لبعض أو كل مستلزمات الحياة، من قلة تهيمن على ثروة الأرض وشعوب منهوبة تغرق في الجهل وتتضور جوعاً، من تسليع البشر والحجر، من اغتراب يتسع ويتعمق، من التضليل وتغييب الوعي.

كما أننا نقبس من توقعاته بحدوث هيمنة ساحقة للرأسمالية على السوق العالمية يسبق انهيارها، أساليب كفاحنا ضد العولمة وضد حملاتها المتوحشة لبث الوهم بقدرية الاستغلال. ونقبس من علمه ما يفضح مسؤولية الرأسمالية عن تقويض مصادر الثروة، من أرض وموارد وعمال، وما يساعدنا في مواجهة مخاطر وأد الحياة عبر الحروب وتخريب البيئة. ويمكننا بمنهج ماركس أيضاً أن نبصر أهمية وجود حزب فاعل لليسار قادر على تعبئة الجميع في مجتمع مزدهر بالعلم والثقافة، وأن نضيء التكامل بين النضال الشعبي والبرلماني، ونحدد معالم ديمقراطية، ستتمظهر بها الحرية في المجتمع الاشتراكي.

في 14 أذار من العام 1883، أغمض ماركس عينيه ورحل، لكن بقيت هناك على قبره زهرة حمراء، تستيقظ كل فجر جذله بنضال اليساريين، تتحدى المحن والعواصف، تنثر عطرها منعشاً لكل الثائرين، وتسخر من أوهامٍ انتظرت نهاية لأفكار الرجل. 

عرض مقالات: