اخر الاخبار

لن تقووا على العشق الذي استودعوه في قلبي! هكذا صرخ الفتى الشيوعي بجلاديه، مستذكراً كلمات الحلاج لتلامذته، من أن ركعتين في العشق لا يصح وضوءهما إلا بالدم. وكما سبح الصوفي في الملكوت بحثاً عن نعيم الروح، استلهم الفتى النجفي ذات الصبر ليصبح عصياً عليه الحزن، حين راحت حراب الفاشيين تقطّع أصابعه النحيلة. وعندما قلعوا عينيه، انعكست بصيرته في بصره، ورأى حزبه ينهض من تحت الرماد، مشرقاً بالأمل رغم كل الجراحات والطغاة، فسارع لينثر بسماته كي تتبدد عتمة الليالي، قبل أن يغلق عينيه، راضياً بما قدمه في أعوامه التي لم تبلغ الأربعين.

حين دخلت عالم الرضّي في ذكرى استشهاده الثانية والستين، باحثاً عن سرّ فتى، مزقت أضلاعه سياط الشقاة وداست سنابكهم جسده دون أن يفقد اليقين، أدركت بأن ثنائية الموت والحياة ليست سوى شمعة وفاء، إن أضاءها الثوري عاش وخلُد وإن أظلمها أدركه الفناء. وعرفت بأن صمود سلام عادل لم يكن سوى مسك ختامٍ لعمر من مشاعل، أنارت درب بلادٍ، بين نهرين، لم يرويا ظمأ عشاقهما يوما.

على نور الشعلة الأولى، رأيت الرضّي ينسج صلات الحزب بالناس، يحصّن مواقعه في الحياة السياسية، يشيد تنظيماً قوياً ذا قاعدة فاعلة، سخية في العطاء، حرّة وقادرة على مواجهة الصعاب، ويرّبي كادراً حريصاً، متمرساً، لا يدّعي احتكار الحقيقة، ولا تغريه سوى خدمة المستضعفين، الذين يتقن جيداً فن الإصغاء لهم. وأهتديت، حين تتبعت نشاطه بين الفلاحين وقيادته للإضرابات العمالية واستعادته لوحدة الحزب وسهره على صيانة الإنضباط الواعي، وتمتعه ورفاقه بثقة الجميع وبالقدرة على إصلاح أي شقوق في جدران السفينة المبّحرة.

وعلى نور الشعلة الثانية أدركت كيف نجح الرضيّ في الكشف عن وجه الرأسمالية البشع، وعما سببته لشعبنا من مآسٍ وما نهبته من ثروات، حتى استوطنت كراهيتُها قلوبَ العراقيين. وكيف فضح كل محاولات تضليل كادحي بلادي وصرفهم عن الثبات في معاقل الدفاع عن كرامتهم. وكيف تمكّن من تشخيص طبيعة الصراع الطبقي قبل ثورة تموز وبعدها رغم الصعاب والتحديات. وأهتديت حين أصغيت لخطابه أمام المؤتمر 21 للحزب الشيوعي السوفيتي، الذي حدد فيه موقفه السليم من حكومة عبد الكريم قاسم، البرجوازية الوطنية، ورفضه للفردية ودعوته لقيام نظام ديمقراطي وطني يصون الإستقلال ويكافح ضد الإمبريالية وشرور الحرب ويحقق العدالة الاجتماعية.

وعلى ضياء شمعات أخرى، تعرفت على أممية الرجل ووطنيته، دفاعه الحازم عن قضية البروليتاريا والمستعبدين في العالم، رفضه للمساومة على قضايا الوطن وكادحيه، وتمسكه ببناء دولة المواطنة التي تضمن الحقوق العادلة للكرد وباقي المكونات. وتتبعت خطواته في التظاهرة الكبرى التي شهدتها بغداد في ايار 1962 للمطالبة بالسلم في كردستان، والثمن الغالي الذي دفعه رفاقه الشيوعيون حين جرى قمعها، وفي شعار الاتحاد الفيدرالي بين الدول العربية، الذي كان سيُغّني العرب عن مآسي جمّة لو جرى تنفيذه.

وفي عالم الرضّي، رأيت خصومه ومعاصريه يكتبون عنه بأنه "رجل شديد الهدوء والدماثة، أنيس إلى أقصى الحدود، آسر، مقنع بشكل غير عادي، عالي المعرفة بشؤون الحزب الشيوعي وراسخ في قناعاته الفكرية، كريم ومتواضع، شجاع بلا ادعاء، ومستعد للتضحية بلا تردد". وحين قرأت ما كتبه واحد من قتلته من أنه رأى سلام عادل في المعتقل "وقد شوه التعذيب جسده وفُقئت عيناه وتدلى لحم يديه المقطوعتين، ولكنه بقي صامداً حتى وفاتهً"، ترسح يقيني من تناغم هذا الأمر مع مسار حياة أسطورةٍ لم يضُّمها قبر، فبقيت نبضاً في الأفئدة والعروق.