يكمن سر شعبية اليسار – حسب غرامشي - في قدرته على تفنيد آراء معارضيه والترويج الدؤوب لأفكاره، حتى تتبوأ مساحة في ذاكرة الناس، تمكّنها من تغيير الوعي اليومي والتصورات المستقبلية. وتشتد أهمية هذه الرؤية في زمن التراجع، وعند هبوب عواصف الفاشية الجديدة في الدول الإمبريالية أو عندما يسود حلفاؤها الإستبداديون الرجعيون في الدول التابعة.
وكما يفضي تخريب الديمقراطية البرجوازية ومكتسبات دولة الرفاه على يد الليبرالية الجديدة، إلى هيمنة اليمين العنصري الذي يسعى لتحديث الفاشية في المركز الرأسمالي، وإلى استغلال عدم المساواة والفقر وانعدام الأمن وما يمارسه رأس المال من إذلال، في تضليل الناخبين وإيهامهم بأنهم ضحايا لقوى لا يستطيعون مواجهتها، وأن هذا اليمين هو الوحيد القادر على منحهم الدفء والانتماء، تنجح سياسة الإلحاق والتهميش في تمكين الفئات الفرعية من الهيمنة على الدول التابعة، التي تغرقها الرأسمالية المعولمة، في حروب محلية طاحنة واستقطابات طائفية وأثنية وفقر ومجاعة وتفش للأمراض وهجرة جماعية وتدخل فظ يسحق بوقاحة ما تبقى من سيادة وحقوق وينهب ما تبقى من ثروات.
وفي كلا الساحتين يقلص هذا الخراب مساحة اليسار في وعي الجمهور، مما يضاعف حاجته للمزيد من الكفاح الثوري لصيانتها ومن ثم توسيعها. وقد كشفت تجارب الدول التابعة عن أن أبرز اشتراطات تحقيق ذلك، تشخيص دقيق لهذه المتغيرات ومراقبة نمو هذه الفئات، والذي لا يسير بالضرورة بسرع متقاربة ولا يتخذ اشكالاً متشابهة، رغم أنه يؤدي على الأغلب لتكوين الأوليغارشية، طغمة صغيرة من كبار العسكريين والمدراء وممثلي العوائل وأصحاب رأس المال المالي، والتي تكتسح الدولة، سواء كان ذلك في مجتمعات تهيمن عليها البرجوازية البيروقراطية المدنية قبل أن تدجّن الفئات الباقية تحت جناحها، أو في مجتمعات تتغول فيها البرجوازية الطفيلية، ثم تقوم بمنح كبار العسكريين والإداريين، حصصاً متميزة من الثروات ومشاركة في الحكم ومجالس إدارة القطاعين العام والخاص.
وكما تمثل الفاشية الجديدة في الغرب خطراً هائلاً على الحريات والمسار الديمقراطي نحو الاشتراكية، تتميز المجتمعات التي تحكمها الأوليغارشية بسمات مشتركة في فترة نمو الإستبداد الرجعي (هل يمكنني أن أسميه الفاشية التابعة؟) كوحدة الأجهزة القمعية والتداخل بين صلاحياتها وقيام بعضها بالتجسس على البعض الآخر لضمان عجزها عن إحتكار السلطة بالعنف، وكاستيلاء الطغمة الحاكمة على ملكيات البرجوازية الكبيرة، ونهب المال العام، عبر تحالف غير مقدس مع المتنفذين في القطاعين الحكومي والخاص، وتحويل السرقة إلى اسلوب حياة، والابتزاز لنمط من انماط النشاط الاقتصادي، وإعادة توجيه الدولة من تنموية إلى ريعية، والإسراف في الإنفاق لشراء الذمم.
وتتسم هذه الفترات أيضاً بهيمنة الأوليغارشية على مؤسسات الإعلام واعادة "تنظيمه" واحتكار وتقييد تدفق المعلومات، وتعريض الصحفيين للترغيب والترهيب، وقضم الحريات وشل منظمات المجتمع المدني، وإتقان كل أشكال التضليل وبث الوهم في العقول. تقول ميشيلا موريا في كتابها (كيف تكون فاشيًا) "يتعامل الشعبوي مع الناس وفقًا لاحتياجاتهم، فيحصل الفقراء على بعض الأسماك المجانية كل عام، وتحصل الطبقة المتوسطة على ثلاجة لتخزين بقايا الطعام، وتحصل الطبقات العليا على كل ما يدفعه الجميع".
وفي الفترة التي تسبق ظهور الفاشية الجديدة في المركز والتابعة في الأطراف، ويوسّع الخراب دائرة المناهضين لليمين العنصري والأوليغارشية، تتزايد حاجة اليسار لإتقان فن بناء جبهة ثورية، مع من يتطّهر من خطايا العداء له، ويتبنى بصدق الدفاع عن الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ويمارس نضالاً لا هوادة فيه لتحقيقها. ويبدو أن هذا شرط لأشراقة جديدة وبهية لليسار في وعي الناس.