نحن، أقصد الاقتصاديين، ندرك أن أموال الدولة قد تعرضت منذ أكثر من عقدين إلى أشكال متنوعة من السرقة والتهريب أمام أنظار الحكومة وأجهزتها الأمنية والرقابية حتى وصلت أرقامها إلى ما يزيد عن 500 مليار دولار وفقا لتقارير محلية ودولية ومراكز بحثية ذات شان. ونعرف أن الحكومات المتعاقبة تحدثت عن هذا الأمر طويلا وأعلنت عن خطط لاسترداد هذه الأموال التي تعود للعراقيين وليس للحكومة التي لا تمتلك إلّا وظيفة حماية هذه الأموال وتحصينها من أيادي العابثين.
إنني هنا لا أتحدث عن سرقات متوقعة لكي تتخذ بشأنها إجراءات احترازية بل عن أموال سرقت مع سبق الإصرار والترصد وأن ملفاتها محفوظة بأدراج القضاء وهيئة النزاهة ناهيك عن دوائر الرقابة المالية وهي بحاجة إلى تفعيل وقرار شجاع بكنس الفاسدين والمتلاعبين بقوت الشعب. إن المتابع للأرقام والبيانات الاقتصادية والمالية التي تحدث عنها وزيرا المالية والتخطيط في الحكومة السابقة وفي البرلمان العراقي يشيران إلى أزمة مالية مرشحة لان تمتد لفترة ليست بالقصيرة تتجلى قبل اي شيء آخر بعجز كبير في الموازنة الاتحادية ربما بسبب الانخفاض في الموارد المالية ناتج عن انخفاض متوقع في أسعار النفط ونقص شديد في السيولة المالية .وقد حصل بالفعل ما توقعناه وخاصة بالحجم الصادم للعجز في الموازنة التي تشير التقديرات أنها تصل إلى 80 ترليون دينار، وهذا العجز في واقع الحال لا يعالج إلّا بالاقتراض الداخلي والخارجي، وأن الاقتراض الداخلي قد زاد عن 80 تريليون، ورغم محاولات التخفيف من وطأة هذا الدين فإنه مطلوب ولابد من تسديده وأي تأخير سوف يؤدي إلى كارثة على الاقتصاد الوطني في التحليل النهائي .
ولا يقل خطرا عما جرى الحديث عن الأموال المهربة خارج العراق أو التي يجري غسيلها بأريحية في العديد من الأشكال والأكثر وضوحا في قطاع العقارات، وما دام الحديث قد تناول العقارات فما هو الموقف الحكومي من عقارات الدولة التي تفيض قيمتها عما ذكر بأضعاف مضاعفة؟ واستنادا إلى تصريح النائب أمير المعموري فإن 9 آلاف عقار تم التجاوز عليها بعد عام 2003 تتجاوز قيمتها 50 تريليون دينار وما بين الكرخ والرصافة هناك أكثر من 5 آلاف عقار متجاوز عليها، والأشد غضبا اختفاء 100 سجل عقاري يحتوي كل منها 400 عقار فضلا عن حالات التلاعب والتزوير في العديد من العقارات في نينوى وصلاح الدين وكربلاء وبابل وغيرها، غير أن البرلمان بدلا من ملاحقة هذه الانتهاكات ذهب إلى إصدار عفو عن هؤلاء الفاسدين بأسلوب مشوش مشكوك في إعادة المسروقات من المال العام بهذه الطريقة أو تلك.
إن فرص إعادة هذه الأموال متوافرة بشكل كبير وتتمثل بوجود اتفاقيات ومبادرات دولية يمكن توظيفها لهذا الغرض ومنها اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد ومبادرة (star) التي أطلقها البنك الدولي والأمم المتحدة عام 2008، لتسهيل استرداد الأصول المسروقة، وهذه المبادرة تسقط أية حصانة سواء كانت سياسية أو دبلوماسية وتشمل أي موظف حتى لو كان رئيس دولة مستمرا بمنصبه، ووجود أجهزة دولية ومنظمات وشركات عالمية متخصصة في إعادة هذه الأموال نظير نسبة مئوية من المبلغ المحدد بقرارات قضائية باتة.
إن النجاح في هذه العملية تقتضي الحصول على معلومات دقيقة عن الحسابات البنكية للمسؤولين المتهمين بالفساد، يوفرها التحقيق القضائي النزيه، تسهم في تقدير الحجم الحقيقي للأموال المهربة لما لها من أهمية في تفكيك الشبكة العنكبوتية من أشخاص فاسدين وشركات وهمية واستخدام أسماء مزورة، وإذا ما توافرت هذه المعطيات فسيكون من السهل النظر قضائيا وإصدار حكم قضائي بات من قاض طبيعي ومن محكمة جنائية حيث أن الدول الأخرى لا تعترف بالقرارات الصادرة عن محاكم استثنائية أو خاصة. وأن النجاح في هذه المهمة سوف يلزم الحكومة في الاستغناء عن الاقتراض الخارجي وبالتالي تعزيز الاستقلال السياسي والاقتصادي، وضمان الخدمات الشاملة والكافية للمواطن العراقي.