يتتبع فلم (اختراق الكراهية) للمخرج سيمون كلوز، والفائز بجائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان تريبيكا السينمائي، محادثات على وسائل التواصل الاجتماعي بين يمينيين متطرفين، ومحتواها "المحايد" الذي يقتصر على إعداد الطعام وتجديد المنزل والعناية بالبشرة وباللياقة البدنية وتمتين الثقة بالنفس وتعزيز الطاقة الإيجابية، قبل أن يصدم الفلم مشاهديه فيريهم كيف تتمّكن هذه الحوارات "البريئة" من تحويل الشباب المسالمين إلى إيجابيين تجاه العنف ومشدودين لفكرة ممارسته، حد إبداء الإعجاب الشديد بالقادرين على تنفيذ عمليات إرهابية.
كما يكشف لنا الفلم عن الدور الرئيسي لمليارديرات تكنولوجيا المعلومات في بناء شبكات من الشباب المتطرف، تحرض على قتل المختلفين وتعادي أفكار العدالة والتضامن، متلقية تمويلاً من شركات ومؤسسات قانونية، ودعماً من عشرات الصحف والمواقع على الإنترنيت، بما فيها تلك التي ترفع شعارات عن الأخبار "النظيفة" التي يفترض أن تكون "صادقة وخالية من الأجندات الخفية"، ولا علاقة لها بالدين أو الأيدولوجيات.
ويعكس الفلم بدقة سبقته اليها كل أطياف اليسار، مسار استيلاء اليمين المتطرف على الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة أولاً إثر صعود ريغان في العام 1980، ومن ثم على الحزب الديمقراطي، حين تمكنت لجنة القيادة الديمقراطية من هزيمة يسار الوسط بإنتخاب كلينتون في العام 1992، وكيف تلقى هذا اليمين دعماً هائلاً من الرأسماليين (حققت هيلاري كلينتون 156 مليون وترامب 382 مليون دولار كتبرعات من الشركات لحملاتهم الإنتخابية) كي يتمكن من التلاعب بالعديد من الجماعات والحركات الاجتماعية، وليستخدم الإختلافات في العرق والطبقة والجنس والهوية الاجتماعية سلاحًا ضد الشغيلة وينشر في صفوفها أفكار الفردانية والنرجسية والتشاؤم والعدمية والقدرية، حتى تضاعفت بشكل لا سابق له الهوة بين مصالح الناخبين الطبقية وبين برامج من يصوتون لهم.
وبغية صيانة السيطرة على الحزبين، عمد اليمين المتطرف إلى تشديد هيمنته على المؤسسات الإعلامية والإبداعية ونظام الإنتاج الثقافي والتوزيع والاستهلاك بأكمله، فهناك اليوم خمس شركات عملاقة تسيطر على 90 في المائة مما تقرأه أمريكا أو تشاهده أو تستمع إليه. كما إن ما جرى من خلاف ثم وئام بين ترامب وماسك وبينهما وبين زوكربيرغ أو جيف بيزوس الاّ أمثلة على العلاقة الوثيقة بين تلك المؤسسات والشركات العملاقة وبين البيت الأبيض.
ويبدو اليساريون على حق تماماً حين يصفون هذه الظاهرة المتنامية، بأكاذيب اليمين الرجعي الاستبدادي المرقمنة، فعلى سبيل المثال، أطلق هذا اليمين خلال خمس سنوات 32 مليون تغريدة كاذبة لأكثر من 8000 برلماني في 26 دولة مختلفة، والتي غطت طيفاً واسعاً من القضايا، يبدأ من مؤامرة لقاحات الكوفيد إلى خطط إبادة العرق الأبيض وإنتهاءً بأنكار التغير المناخي. وقد ارتبط كل هذا التضليل بالأحزاب اليمينية الشعبوية، ليس في أوربا وأمريكا بل في العالم أجمع. ورغم أن التلفزيون ووسائل الإعلام التقليدية ساهمت في نشر هذه المعلومات الكاذبة عن عمد، فإن حصة الأسد فيها كانت لشبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، مما يضاعف من مهام اليسار في استثمار هذه الساحة في الصراع.
بقي أن نؤكد بأن هذه السيطرة على الإعلام الرقمي لا تتعارض مع حرية التعبير، لأن هذا الحق المتاح يبقى بلا معنى حين يتمكن مالكو وسائل الاتصال من تحديد الآراء التي تستحق التضخيم والنشر وتلك التي يجب التعتيم عليها، بغية الوصول إلى أهداف، قال عنها مدير (السي آي أي) ويليام كيسي لموظفيه العام 1981 بأن البرنامج الإعلامي لوكالته لن يحقق أهدافه، الاّ عندما تصبح كل معتقدات الجمهور وقناعاته زائفة تماماً.