المتفحص للسياسة المالية الراهنة، يتوصل إلى حقيقة أن هذه السياسة تنحصر في عملية تقييد الإيرادات العامة وإعادة توزيع النفقات العامة على ضوء التخصيصات المقترحة من الوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة والمساومات مع هذه الجهات في المتوفر من الإيرادات والتي تعتمد بشكل أساس على المتأتي من كميات النفط المصدرة، وأخذ هذه الآلية منحا تقليديا لفترة طويلة مع أن السياسة المالية تتطلب وضع استراتيجية تنموية شاملة وتحديد الأولويات في بناء اقتصاد حديث ومتطور.
إن المهمات الأساسية للسياسة المالية تتلخص في تحقيق الأهداف الاقتصادية الواردة في الاستراتيجية التنموية من خلال استخدام أدوات السياسة المالية المتمثلة بالموازنة الاتحادية العامة بجانبيها الإيرادات والنفقات في الزيادة أو التخفيض ومراقبة الأداء الاقتصادي من خلال ديوان الرقابة المالية وتحديد نسب الانحراف في المشاريع الاقتصادية ومظاهر التلاعب في المال العام فسادا وهدرا وتحديد نسب التضخم ومعدلات النمو الاقتصادي، وهذه مهمة مشتركة مع السياسة النقدية التي يضعها البنك المركزي، والتنسيق مع الوزارات والمؤسسات غير المرتبطة بوزارة من أجل تحديد الأولويات للمشاريع وأوجه الانفاق ومقدار التخصيصات الكلية لكل جهة من هذه الجهات.
ومن الواضح أن التخطيط لسياسة مالية رصينة يتطلب إضافة إلى تحديد المهمات، تحديد المشكلة الاقتصادية الاجتماعية المتمثلة في البطالة والتضخم ومعدلات النمو في القطاعات السلعية في الصناعة بكل فروعها الزراعة بقطاعيها النباتي والحيواني ونسب الفقر في المجتمع والتفاوت في مستويات معيشة المواطنين العراقيين، وهذه من المؤشرات الأساسية التي تحدد طريقة وآليات توزيع الثروة الوطنية على أفراد المجتمع بما يقربنا تدريجيا إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وهذه التوجهات تتطلب دراسة للواقع الاقتصادي والذي يتصف ولايزال باختلال في الهيكل الاقتصادي وهيكلية تكوين الناتج المحلي الاجمالي وفي هيكل تمويل الموازنات العامة للدولة وفي هيكل الاستيرادات وهيكل الصادرات وتشوهات جهاز الاسعار، وإذا ما توفرت المعطيات في كل هذه الأمور وتم تقييمها فان وزارة المالية المسؤولة عن رسم السياسة المالية تكون قد اقتربت كثيرا من رسم استراتيجية كلية للمساهمة الفاعلة في النمو الاقتصادي على أسس جديدة.
وهذه النتائج عرضة للمخاطر ما تتطلب التوقف عند الملاحظات التي قيلت بشأن الموازنة الاتحادية السنوية من قبل بعض نواب اللجنة المالية في مجلس النواب ومؤداها أن أي تغيير في فقرات الموازنة سيجعل من الممكن تغيير فقرات وبنود ثبت عدم جدواها، ومن جهة أخرى تشير ملاحظات أخرى إلى أن ارتفاع حجم الدين العام الداخلي الذي وصل إلى 83 تريليون دينار في نهاية عام 2024 الممول لعجز الموازنة الناشئ عن الافراط في الانفاق التشغيلي وانعكاساته السلبية في انخفاض القيمة الحقيقية للأصول المالية الحكومية وعجز الحكومة عن السداد وتعميق ريعية الاقتصاد ومفاقمة العجز وارتفاع مستويات الأسعار ومعدلات التضخم وبالتالي وضع الحياة المعيشية للمواطنين في الزاوية الحرجة.
إن التوجه لتحديث السياسة المالية وبنائها على أسس جديدة من أجل تحقيق أهدافها يتطلب اتخاذ سلسلة من الإجراءات نشير إلى أهمها بما يلي:
- تحديد أوجه وحجم الأوعية الخاضعة للضريبة ووضع التشريعات المشددة ضد ظاهرة التهرب الضريبي، سواء كانت ضرائب الدخل او الضرائب على رأس المال وضرائب على الإنتاج وضرائب على الاستيراد والتأكيد على تنفيذ قانون التعرفة الكمركية خاصة على السلع غير الضرورية وضرائب على العقار وضرائب على التركات.
- فرض الضرائب التصاعدية لتشمل أصحاب الدخول العالية، وفي هذه المناسبة يتعين الزامية الكشف على الذمم المالية لكبار موظفي الدولة وأعضاء مجلس النواب وأعضاء مجالس المحافظات حيث أن الامتناع عن كشف الذمم المالية هو فساد وتهرب ضريبي يتعين اتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم، وإعفاء ذوي الدخول الواطئة الذين حرموا عن قصد من الثروة الوطنية.
- ضرورة اتخاذ الإجراءات اللازمة من قبل ديوان الرقابة المالية للبدء بوقت مبكر لإنجاز الحسابات الختامية وسد الثغرات المعيبة التي تشهدها الموازنات السنوية والتي تساهم في التغطية عن قصد أو غير قصد على حالات الفساد المنتشرة في كل مفاصل الدولة.