كأن روحا لعينة سكنت عروق المدن الكبرى، خصوصا بغداد، وبثت فيها جنون سرعة حركة المرور من سيارات وشاحنات نقل ودراجات وغيرها.. ولعلي أركز هنا على حركة دراجة عامل التوصيل "الدليفري" ، الذي أصبح بطل الشارع يصارع الزمن وزحام السيارات ليوصل وجبات طعام الجوعى، المنتظرين على أحر من الجمر وجبات ساخنة .
شباب "من خريجي الجامعات" على نحو خاص، يعيشون بمفارقة من استلم وظيفة مريحة وتسلق سلمه الوظيفي بسرعة البرق, وبين دأبهم وكدحهم المتواصل ليل نهار في الشوارع وفي شتى الظروف المناخية من برد وحر، للحصول على كفاف لقمة العيش بجهد شريف من دون منّة أحد.
وظاهرة التوصيل " الدليفري" تعتبر حديثة على مجتمعنا، مستوردة من الدول الصناعية التي يعز فيها الوقت الكافي لإعداد الطعام وتهيئته للعاملين فيها، فضلا عن توفر قوائم لوجبات طعام لذيذة ومغرية وبأسعار اقل كلفة من تحضيرها في البيوت أحيانا، أي بمعنى اختصارا للوقت وللمال وتوفيرا للجهد للحصول على المبتغى..
لكن الغريب ما يشاع حاليا في مجتمعاتنا من اعتماد العوائل على الوجبات السريعة، بدلا من تحضيرها في البيوت على الرغم من عدم اشتغال ربة البيت مثلا ، ولا حتى بناتها، وتوفر ما يكفي لهن أو لهم من الوقت لتوفير وجبات ربما أكثر صحية وأطيب مذاقا.
ويبدو ان الأمر أصبح أشبه بالموضة وبالتقليد، من دون حاجة حقيقية له .. ولو تجاوزنا حاجة الأسر لتوصيل وجبات الطعام إليها، أجد الأمر من ناحية أخرى قد فتح بابا للرزق ووفر عملا لهؤلاء الشباب الذين عجزت الحكومة والجهات المسؤولة عن توفير فرص عمل لائقة لهم، تستوعب تخصصاتهم العلمية سواء في القطاع العام أو الخاص، والحد من ظاهرة البطالة المخيفة في مجتمعنا وما لها من نتائج سلبية كارثية على مستقبل البلاد والشباب تحديدا.
ولو فصَّلنا في ظروف هؤلاء العمال لوجدنا العجب العجاب، فكثير منهم ممن يواصل ساعات عمل لأكثر من 16 ساعة، خصوصا عند تعامله مع شركات متخصصة بالتوصيل ومع المطاعم في الوقت نفسه.. ولعل أصعب أوقات الدوام تلك المتعلقة بشهر رمضان مثلا، والتي تتطلب إيصال وجبات الطعام في وقت أذان الإفطار او قبله بقليل. ومن الطبيعي أن تزدحم تلك الطلبات من عائلات عديدة في آن واحد، مما يربك العامل ويجعله يسابق الزمن بدراجته لإيصالها في الوقت المناسب، متجاهلا زحمة الشوارع ومخاطر حركته السريعة بين السيارات، خاصة اذا كان هو نفسه صائما أيضا.
هذا عدا المشاكل التي قد تواجهه بسبب عدم إرشاده للبيت المعين بالطريقة الصحيحة، أو إرجاع الطعام في بعض الأحيان من قبل الزبائن بحجة التأخير، أو خشونة البعض الآخر منهم عند استقبالهم العامل، مع التأخير في دفع الأجور بل وحتى صفق الباب في وجهه!
تُرى كيف يكون رد فعل العامل في مواجهة تلك الحالات؟ّ