في الفيلم الوثائقي "الموسيقى التصويرية للانقلاب"، والذي أخرجه الفنان يوهان جريمونبريز، يظهر متمرد من مرتزقة بلجيكا، وهو يشد بقسوة شعر باتريس لومومبا، أول رئيس للكونغو المستقلة، فيما كانت الشاحنة التي تقلهما تسير بسرعة إلى حيث يُعدم القائد النحيل. مرتزق ألماني يطّل في لقطة أخرى، وهو يستمتع بسماع سمفونيات بيتهوفن في نادي وكالة المخابرات المركزية القريب من مقر "عمله"، بعد أن روى مغامراته عن اغتصاب النساء وخنق الأطفال وتشويه الوجوه، دفاعاً عن "حق" بلجيكا في ثروات الكونغو.
سريعاً تنتقل كاميرا جريمونبريز لترينا النجمين لويس أرمسترونج ونينا سيمون، وهما يجوبان المدن الأفريقية، ليقنعا الناس من خلال موسيقى الجاز بتفوق الرأسمالية الغربية، ضمن برنامج مولته بسخاء السي آي أي، تماماً كما فعلت مع عازف البوق ديزي غيليسبي وهو يجوب دول الشرق الأوسط لتحقيق ذات الهدف.
كانت شعوب العالم حينها قد بدأت تستيقظ من سبات طويل، تحقق الظفر في صراعها مع المستعمرين، وتتجه لصيانة حرية دولها ولتأمين استقلالها الاقتصادي واختيار طريق تطورها وازدهارها، متناغمة مع الأفكار الاشتراكية، لا بسبب علميتها وقوة المثل الذي ضربته فحسب، بل وأيضاً بسبب دعمها غير المحدود للمكافحين من أجل السلام والمساواة، إلى الحد الذي أرعب قوى الشر الإمبريالية ودفعها لاستخدام كل الوسائل ومنها الثقافة والفنون والإبداع، لعزل تلك الشعوب عن هذه الأفكار.
وفيما كانت تعلو أصوات الجاز في أفريقيا، كانت المسامير تخترق أصابع ابنها البار لومومبا وتهشم الرصاصات رأسه، بأوامر مباشرة من الرئيس أيزنهاور، الذي سرعان ما عرف وكل خلفائه، كم كان واهماً، حين توقع بأن نهاية التاريخ قد حسمت لصالح مكتبه البيضاوي، فلم تمض سوى أيام حتى هزت العالم أكبر حركة احتجاج على الجريمة البلجيكية – الأمريكية، يتقدمها المثقفون وفي طليعتهم أرمسترونج وغيليسبي اللذان سخرا من اختيارهما لإقناع الأفارقة بتحبيذ نظام يعاملهما كمواطنين من الدرجة الثانية فقط لأنهما سود البشرة، وماكس روتش وآبي لينكولن اللذان اقتحما الأمم المتحدة رفقة مئات الناشطين، مؤشرين مع ملايين البشر، تحول الشهيد لنجم نجاة، حدد للمعدمين اتجاه المسير.
وكان للومومبا ورفاقه ما أراد، حيث طردت أفريقيا المستعمرين القدامى والجدد في حركات احتجاج شعبي سلمية وعنفية، وسعت وماتزال من أجل السيادة والتنمية وتحقيق السلام، ومن أجل التحديث وتعزيز الابتكار التكنولوجي وتأمين التكامل في إطار التعددية والخلاص من هيمنة الدولرة ومعالجة فخ الديون وضمان الأمن الغذائي واستقلالية السياسة الزراعية والتحكم في حصتها من الثروة الرقمية وفي رسم خطط عادلة للحد من الانبعاثات وتحميل الإمبريالية مسؤولية تلويث البيئة.
وإلى جانب لومومبا، بقيت نجمة جيفارا الحمراء وعينا الليندي الهادئتان، إيقونات، على نورها رفض الهايتيون قرونًا من الازدراء وأنهوا الاحتلال الأمريكي لبلادهم، وتمكنت "حركة فلاحون بلا أرض" من تنفيذ إصلاح زراعي شعبي في البرازيل فسح المجال لفوز أربعة رؤوساء يساريين، وحقق الجندي الفنزويلي هوجو تشافيز فوزاً في الإنتخابات مشكلاً مع كوبا ونيكاراغوا والبيرو وتشيلي وكولومبيا والأورغواي وغيرها تحولاً حاداً تجاه اليسار، أنهى مبدأ مونرو الذي اعتبر القارة حديقة خلفية لواشنطن، لا يحق لأحد معارضتها فيها.
في كل بقاع الأرض يتواصل التغيير، بعضه صغير وغير محسوس وبعضه متفجر، وتبقى الموسيقى صادحة تؤشر قدرة الشعوب على الانتصار، شرط اختيار دقيق للقيادات وتوحيد الهوية والقدرات وعدم التهاون مع الحق في الحرية والعدالة والحياة. نعم، ستبقى الموسيقى، أقوى من القتلة، تعزز الثقة بأن الغد لليسار، الممثل الحقيقي لشغيلة اليد والفكر، وإن لا عزاء لليائسين.