اخر الاخبار

يقول الكاتب المسرحي الأمريكي توني كوشنر "اكتشفت ماركس وبريخت وشكسبير في آن واحد، لأني ببساطة وجدت الثلاثة منشغلين بنفس الشيء، الحقيقة التي تكون بها الأشياء كما هي وليست كما تبدو، مما شجّعني على النظر لا إلى السطح وما يشكله بل وأيضاً إلى ما يكمن تحته"، ثم يستدرك قائلاً "لا أحد فعل ذلك بأفضل من ماركس".

حديث كوشنر عن بقاء ماركس على قيد الحياة، طالما لم تتم الإجابة على الأسئلة التي طرحها، يرينا كيف يطّل الرجل بعينيه المتلأليئتين وشعره الأبنوسي، ليفتح الأفق رحباً لحوار فكري عما تغير في الواقع وما تقادم من أفكار، حوار يتسع لمجموعة كبيرة من الأحزاب والحركات المختلفة في تنظيمها ومقارباتها لاستراتيجيات بديلة عن العولمة المتوحشة، وذلك بغية الوصول لفعل ثوري يُستنهض به اليسار فيُنقل من موقف دفاعي، تقوقع فيه منذ 1990، إلى موقف نضالي متقدم.

ورغم تعدد ملامح هذا الفعل، بقي ماركس لوح بلور صلد في هذه الحوارات، يعكس الوضوح مرتكزاً لإشتراطات النهوض، سواء في صيانة الهوية والتعامل على أساسها مع كل المهمات، أو في رفض "المشروعية" التي تحاول البرجوازية إضفاءها على التوزيع غير المتكافيء للموارد، أو في تقدير أبعاد الجهد الذي تتطلبه هزيمة اليمين المتفوق.

ولعل من أبرز تلك الأبعاد ضرورة تطوير الإستراتيجية السياسية والتنظيمية وتربية وتدريب الشباب وإطلاق مبادراتهم والاعتناء بهم والتعلم منهم والتخلي عن قيادتهم بموديلات كانت مقنعة لأجداد آبائهم، وإعمال العقل الجمعي في مستلزمات التغيير، ليس بحكمة اليساريين وحدهم، بل وإشراك غيرهم من المواطنين، في استطلاعات رأي عامة أو بلقاءات دورية، والإنصات بتواضع المتعلم لما يقدمونه من مقترحات وأراء تغذي الأفكار وتحفز تجديدها، والتعامل معهم كأفراد بالغين، مهما كان الوعي في المجتمع متدنياً.

كما يدعو ذاك الوضوح الماركسي، يسار هذه المجتمعات، إلى الجرأة في تمزيق السحب الداكنة التي تُحجب بها الأساب الحقيقية للخراب، ومنها شهوة اليمين غير المحدودة للسلطة، وميله للعنف والحروب، وتشجيعه الفاشية والعنصرية، وحمايته لأنظمة القمع والاستبداد، وتضحيته حتى بما يدّعيه من قيم إنسانية من أجل إدامة الإستغلال والنهب.

وعلى الرغم من أن بعض أطياف اليسار لم تعد ترى ضيراً من وجود تشابه شكلي، على الأغلب، بين مواقفها ومواقف يسار الوسط وحتى قطاع من الليبراليين، في قضايا مثل حرية التعبير والحقوق الأساسية ومناهضة الفاشية، فإن ضمان نهوض هذه الأطياف يبقى رهن عدم ترددها في الإعلان عن أن السوق لن تحل الاّ مشكلة أقلية مالكة، فيما يكمن هدف اليسار الأرأس في بناء مجتمع المساواة الحقيقية، الذي لا يمكن الوصول اليه الاّ بتقاسم الموارد وإقامة نظام اقتصادي مختلف جذرياً. كما أن عليها أن تبدد أي غموض يقصر كفاحها على المطالبة بحق الملايين في التعليم والرعاية الصحية والسكن اللائق والخلاص مما يفقد المرأة انسانيتها ولا يعادلها بالرجل في كل شيء، وفي توفير فرص العمل وكل ما يُشبع حاجات الناس الروحية والمادية، وأن تعمل على أن يتسع مدى كفاحها هذا لوأد السياسات التي تناهض فكرة المساواة، وتلك التي تخلق مظالم جديدة، وأن تعزلها عن الناخبين في المجتمع. 

وأخيراً، صار لزاماً كما يبدو، تذكير البعض بالفخر الذي يظل يكلل هامات اليساريين، المنتمين لجيش أممي كبير، صارع ومازال العبودية والاستعمار والرأسمالية، ودافع عن حماية حق البشر في الحياة وفي الحرية والعدالة. إن تلك الهامات ستبقى تتمتع بشرف الثبات، مادام زمن كارل ماركس متواصلاً والصراع الطبقي الذي صوّره فاعلا.

عرض مقالات: