اخر الاخبار

غالباً ما تصف تقارير الأمم المتحدة سياسة المناخ التي ينتهجها زعماء العالم بالكلمات الفارغة، فثمة إدانة صارخة لما يجري، وتحذير من مخاطر كبيرة أسوأ من كل ما مرّ في الماضي، إذ تشير أحدث تقارير المنظمة العالمية إلى أن مستوى الغازات المسببة للإنحباس الحراري بات الأعلى في التاريخ، وأن تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي زاد بنسبة 11.4 في المائة خلال عقدين، تضاعفت خلالهما أيضاً سرعة ارتفاع معدلات درجات الحرارة.

وعلى الرغم من كل هذا، تنكر الرأسمالية مسؤوليتها عن تدهور البيئة واستنزاف التنوع البيولوجي، وتدّعي بأن برامج حمايتها ستؤثر سلباً على النمو، محددة منظورين لحل المشكلة، يقتصر الأول على الإصلاح الاقتصادي ودعوات أخلاقية للشركات، تحثها على تقليل ضرر نشاطاتها على البيئة، وهي دعوات تمّكن الليبراليون الجدد من هزيمتها والسخرية منها في بلدان عديدة. أما الثاني فيرى بأن التحول الأخضر يحتاج لنفقات ضخمة، لا تتوفر إلاّ عند إسناد الاستثمار فيه إلى رأس المال المالي، وهو منظور كشف عنه مؤتمر COP26، حين أعلن تحالف غلاسكو الذي يسيطر على 130 تريليون دولار (أي ما يعادل 137 في المائة من الناتج الإجمالي العالمي) عن استعداده لتمويل الحلول، شريطة تقليص دور الدولة في جميع ميادين الخدمات، بما في ذلك التعليم والرعاية الصحية، مع تشديد دورها كأداة للسيطرة. ولقد فضحت الوقائع  معالم هذه الخديعة، حين انهمكت السياسات الاقتصادية في أوروبا الرأسمالية بتمويل الحرب في أوكرانيا، ووضعت جانباً التزامات حماية المناخ.

وبالمقابل، يتبنى اليسار بكل أطيافه قضايا البيئة، اتساقاً مع جوهره المتمثل بالدفاع عن الحرية والعدالة والحق في الحياة، ويوسّع من قاعدته الاجتماعية لتضم أغلب حماتها والمدافعين عنها، فيما تدحض برامجه لخفض الانبعاثات، مزاعم البرجوازية بعدم إمكانية الجمع بين زيادة النمو الاقتصادي وبين سياسات المناخ، مؤكداً على أن تجنب أي تأثير سلبي لهذه السياسات على القدرة التنافسية للشركات، يتطلب منها تنازلاً ما عن جشعها بتحقيق أرباح مهوّلة على حساب الكوكب. ومن هذا الصراع، تستنتج أطياف اليسار بأن الخلاص من الكوارث البيئية يستدعي تحديد أولويات الاحتياجات البشرية وإجراء التغييرات المطلوبة في الاستهلاك، بحيث تتم تلبية الاحتياجات الأكثر أهمية على حساب احتياجات أخرى وتقليص التفاوت بين الفقراء والأغنياء وبين الرجال والنساء، وصولاً لمجتمع خال من الاستغلال وضامن لسياسة التكافل والمساواة.

وإلى جانب الاتفاق على هذه الأسس، نجد هناك بعض التباين في تفاصيل الإتجاهات البيئية لليسار، فهناك من هو جذري في دفاعه عن الحضارة ومعاداة الرأسمالية، التي يحمّلها بالكامل المسؤولية عن أزمة المناخ جراء لهاثها المتواصل خلف التراكم والاستهلاك، دون مراعاة التأثير المدمر لهذا اللهاث على الطبيعة. ولذا لا يجد هؤلاء حلاً الاّ بتجاوز الرأسمالية وبناء حضارة ما بعد التراكم، الحضارة المنسجمة مع الطبيعة.

وهناك أطياف أخرى ترى بأن على اليسار أن يوسع من منظوره ولا يتمسك بدوغما الخوف من نهاية العالم، داعية إلى ما تسميه بالثورة الصناعية الخضراء، التي تمنح الدولة سلطة ً أقوى في فرض مشاريع حماية البيئة. وتبقى هذه الأطياف متمسكة بهذا المنظور رغم تراجع دورها بسبب صعود اليمين المتطرف وتقلص الدعم المالي الذي كانت تحظى به سياساتها قبل الجائحة والركود.

وأخيراً، ماتزال بعض أطياف اليسار محط انتقادات حادة لتأخرها في تبني قضية البيئة، بسبب خشيتها من انفراط عقد تحالفاتها المربكة مع يسار الوسط، مما أفقدها الريادة، ومكنّ اليمين، والمتطرف منه بشكل خاص، من سرقة أصوات ناخبيها القلقين.