تعتبر الأسعار في أي بلد، الأداة الناظمة لتوزيع الدخل والإنتاج ولهذا تعمل الدول المتحضرة على وضع الضوابط للحد من الانفلات السعري في السوق مما تسهل على مواطنيها إمكانية الحصول على السلع الضرورية لإدامة حياتها، ففي الدول الرأسمالية التي تتبع اقتصاد السوق مثلا تلزم باعة الجملة والمفرد بوضع لائحة الأسعار في مداخل محلات البيع لاطلاع المتسوقين عليها وعلى ضوئها تتخذ قرارات الشراء والبيع على أن تمثل الأسعار المعلنة الحد الأعلى قابلا للتخفيض.
ومن الناحية النظرية فإن الأسعار تتحدد بالنقطة التي يلتقي عندها منحنيا العرض والطلب حيث يمثل منحنى الطلب مقدار القوة الشرائية المجموعية (الإنفاق العام) للدولة والأفراد والشركات الخاصة ونقصد هنا منحنى الطلب الاستهلاكي والاستثماري، أما منحنى العرض فيمثل كمية السلع المعروضة في الاسواق. وما دمنا نتحدث عن القوة الشرائية وهذا هو موضوع جوهري في مناقشة الأسعار لتحديد نصيب الأفراد والطبقات من البضائع المعروضة فأن ذلك يقودنا إلى كيفية توزيع الثروة على أفراد المجتمع وهذه بمجملها موضوعات ينبغي أن تكون محور النقاش على مستوى الدولة والمجتمع. للإجابة عن سؤال محوري هل يتعرض المواطن العراقي وخاصة الطبقات الفقيرة وذوي الدخل المحدود للاستغلال الناجم عن جشع التجار؟ وما هي نتائجه المستقبلية؟
ويبدو أن هذا الموضوع لم يعد محصورا في دوائر اختصاص مغلقة منذ عشرات السنين وحتى بعد عام 2003 حينما ارتضت الدولة لنفسها ان تختار اقتصاد السوق كنظام اقتصادي في العراق وفقا للفكر الليبرالي ويا ليتها، ففي ظنها أن آليات السوق هي التي تحدد مستويات الدخل والإنتاج والأسعار وفقا لنظرية آدم سميث أو هكذا قرأوها كما يبدو وبسحرية هذه الآليات تتوزع الثروة بشكل عادل بين المواطنين الذين كانوا يطمحون إلى نظام يرفع عنهم غلة الجوع والفقر والعوز، وعلى العكس فقد قرأوها بالمقلوب فكل سعيهم بسياساتهم الاقتصادية عملوا على بناء اقتصاد هجين ومن العسير توصيفه وفقا لكل النظريات.
إن إحدى الظواهر الاقتصادية الماثلة في الاقتصاد العراقي هي التضخم العالي الناشئ عن تدفقات نقدية عالية تطرح سنويا في السوق عبر الإنفاق المالي المتأتي من الموارد النفطية، فتحولوا بهذه السياسة إلى اقتصاد ريعي او هكذا كان بالأصل وانتقلت ارتداداته إلى الموازنات التشغيلية في الموازنة العامة، وفي نفس الوقت يعتمدون تجاريا على سلاسل التوريد لكل شيء من الخارج مما يترتب على ذلك الخضوع لسياسة الإغراق استجابة للسياسة الرأسمالية المعولمة، بالإضافة إلى أن السياسات النقدية التي يتبعها البنك المركزي العراقي التي تعيد الدولار المتأتي من الموارد النفطية إلى الخارج بدلا من توظيفه في القطاعات الإنتاجية والخدمية المنتجة، وفي أخر هذه الرحلة المتعثرة عملوا على انخفاض سعر الصرف للدينار العراقي إزاء الدولار مما أضعف القوة الشرائية للدينار وبالتالي أدى إلى ارتفاع الأسعار مع غياب الإنتاج المحلي المتهيء للتصدير واختلال الميزان التجاري وتسبب كحصيلة نهائية إلى الاختلال في توزيع الثروة بين المواطنين، وهكذا تتولد بنية اجتماعية مضطربة تعكس تناسل طبقات بيروقراطية فاسدة وطبقات طفيلية نهابة وطبقة كامبرادورية تقابلها طبقات فقيرة تحت خط الفقر وعلى جانبيه وطبقة متوسطة بالكاد توفر لنفسها السلع الاساسية.
إن ترك الأسعار عائمة في السوق في ظل فوضى الاقتصاد والتجارة والعمالة المرتفعة سيظل العراق بوابة لإعصار اجتماعي يصعب ان لم نقل يستحيل السيطرة عليه ما لم تعد الدولة النظر بسياستها الاقتصادية الراهنة والبحث الجاد عن مخارج للفوارق الطبقية المستفحلة في المجتمع على أساس واقعي بعيد عن النظريات المستوردة، من خلال تشكيل مجلس اقتصادي أعلى يضم وزراء الاختصاص والكوادر الاقتصادية من الخبراء والأكاديميين والمكاتب التخصصية في منظمات المجتمع المدني بعيدا عن الانتقائية وإعطائه صلاحيات تمكنه من رسم السياسات الاقتصادية على ضوء الواقع والحاجة ويتولى متابعة الانتاج والتوزيع وبناء جهاز لمراقبة الأسعار ووضع التشريعات الناظمة لأعمال هذا المجلس وصلاحياته. وبدون ذلك لا جدوى من زيادات رواتب الموظفين والرواتب التقاعدية فقط التي تلتهمها الأسعار العالية وخاصة ر في الأعياد والمناسبات الدينية وهي كثيرة.