اخر الاخبار

في فيلمه الوثائقي "منطقة الصدمة"، يكشف المخرج آدم كيرتس، عن حجم المأساة الإنسانية التي عاشتها روسيا في مطلع التسعينيات، بعد أن قرر مخمور يدعى بوريس يلتسين حل الإتحاد السوفيتي، حتى دون استئذان رئيسه ميخائيل غورباتشوف.

يستفيد كيرتس في عمله من مجموعة كبيرة من الصور والمقاطع الفلمية، ليجعلنا نعيش مع سكان موسكو حياتهم اليومية، فهذا مصنع للحلويات، وهنا عدد من الأمهات الثكلى، يحدقّن في السيارات القادمة من ساحات الحرب في جورجيا والشيشان، عسى أن يجدّن فيها جثث أولادهن، ليحصلن بذلك على ما يسد الرمق، فلم يعد هناك ضمان عند الشيخوخة.

وهنا أيضاً شكل جديد لحفلات موسيقية، راحت تقام في الصالونات الفاخرة، حيث "يستمتع" الحاضرون فيها بعرض أفلام أباحية، كانت تعّد فعلاً محرماً في الدولة السوفيتية التي أُسقطت، تماماً كخلو أيام تلك الدولة من صور هذه الفتاة، وهي تتسول في الإختناقات المرورية، لتعّيل اخوتها الصغار!

ولا يمضي وقت طويل حتى نكتشف أن كيرتس، وهو يرصد تلك المرحلة المضطربة من تاريخ روسيا، يريد الكشف عن كيفية ظهور الأوليغارشية ودورها الرئيسي في تفكيك الاتحاد السوفيتي، والمخاطر الكبيرة التي كانت تهدد من يحاول الإقتراب منها أو فضح خباياها، وأن يصف بدقة العلاقة المباشرة بين ما سمّي بالإصلاح الغورباشوفي للاقتصاد وبين تمكّن عدد من رجال الأعمال من السيطرة على المجمّعات الصناعية الضخمة والمتوسطة، واستحواذهم على ثروات هائلة، وقيامهم بتهريب 450 مليار دولار إلى خارج البلاد، تلك المجموعة المرتبطة بيلتسن وشلته، والتي تحولت فيما بعد إلى الأقلية الحاكمة.

ولكي نتعرف على بعض من هؤلاء عديمي الضمير، مثل مستشار يلتسين الاقتصادي إيجور جاجدار، الذي لم يتورع رغم الفقر المدقع وانخفاض متوسط العمر وتفشي الجرائم، من أن ينفّذ ما أسماه بالإصلاح عبر الصدمة، يرينا الفلم صوراً لمواطنين روس ومن جميع الأعمار، يقفون في طوابير ليبيعوا دمهم كي يشتروا بثمنه خبزاً لأطفالهم، وصوراً أخرى لمن فشل منهم حتى في هذا "العمل"، حين رفضت المستشفيات شراء دمه لأنه ببساطة يعاني من سوء تغذية مزمن. كما يمكننا أن نعرف من الفلم، بأن منح السلطة لرجل من بقايا (ك ج ب) كان مشروطاً بالعفو عن جرائم فساد الأقلية وعن خطايا تفكيك أول تجربة اشتراكية وحرمان الناس الذين كفروا بديمقراطية الغرب، من الحرية والخبز معاً. 

وعلى الرغم من بقاء الحوارات في فيلم منطقة الصدمة، بأصوات أصحابها، وعدم التزام كيرتس تماماً بالحياد المهني، يعدّ الفيلم وثيقة إدانة لما حدث، ترينا صدق ما قالته يوماً روزا ليكسمبورغ بأن لا خيار أمام البشرية، فإما الإشتراكية أو البربرية. فطيلة 34 عاماً، منذ تفكك الإتحاد السوفيتي، عرفت روسياً مجتمعاً انخفض فيه الإنتاج الصناعي بنسبة 50 في المائة والزراعي بنسبة 60 في المائة وأُثقل بالتفاوت الطبقي المريع وبالحريات المزيفة وبالاستغلال البشع لشغيلة اليد والفكر وبالنهب اللصوصي للثروة الوطنية وبغياب حقيقي للسلم والأمان وبتخريب متواصل للقيم الإنسانية التي زرعتها الاشتراكية في النفوس على مدى عقود.

ورغم أن العامل الخارجي وصعود الأوليغارشية لعبا دوراً مساعداً في حصول هذا التفكك، يبقى التمعن في الأمراض والأخطاء التي عانت منها التجربة الإشتراكية وأدت لانهيارها، واجباً ملزماً لكل الثوريين، كي يتمكنوا من استعادة التوأمة بين الجوهر المتقدم للحرية وبين الاشتراكية، والخلاص من هيمنة البيروقراطية وعبادة الفرد واجتثاث مسبباتهما، وعدم التنكر لما للقوانين الاقتصادية والاجتماعية من فعل موضوعي، وتبديد الفوضى وإعادة الوحدة لصفوف اليسار في إطار تنوعه الجميل.