اخر الاخبار

يبدو أن الفيلسوف الفرنسي الراحل بيير بوريديو، الذي اعتقد بأن أبرز ما تحتاج له الماركسية من تحديث يكمن بدراسة تأثير العوامل غير الاقتصادية على التطور، كاللغة والثقافة، قد نسي هو الآخر أن يشخص صناعة الفرح كمؤثر مهم، حيث لا يحتاج المرء اليوم ليكون جميلاً أو غنياً كي يصنع المرح ويتبعه الناس. وإذا كان اعجاب الكثيرين بالفنانين وبعض شاغلي الرأي العام بمدونات لا محتوى فيها، يبقى آنيّاً ومحدوداً قبل أن يتبدد كالسراب، فإن ما يحظى به خالقو الفرح الجادين من تأثير، يظل عميقاً وقادراً على المكوث بالأرض طويلا.

ومن بين هؤلاء، تبرز لنا الأمريكية كاثلين هانا، التي صدرت قبل اسابيع سيرتها الذاتية، لتستكمل فيلماً سينمائيا عنها أخرجه الانكليزي سيني أندرسون العام 2013، تلك الفنانة التي تمّكنت ببساطة من الجمع بين صناعة الفرح وبين الفكرة، مذ بدأت مسيرتها عام 1990 بقيادة الفرقة الموسيقية "بيكيني كيل" والفرقة "لي تايغره"، أي مذ وظفت موسيقاها المرحة في نشاطها السياسي، دفاعاً عن حقوق النساء في أمريكا بشكل خاص وفي العالم بأسره.

السيرة الذاتية لكاثلين هانا "الفتاة المتمردة"، رحلة غاضبة ومضطربة في طفولتها وشبابها، لكنها واضحة وغير مكتوبة لتضخيم الذات، بل لطرح أسئلة تُنعش التفكير. فمنذ عام 1992، عندما أصدرت أول تسجيل لفرقتها، أصبح الفن بالنسبة لها عملاً من أعمال المقاومة، وصارت واحدة من رموز الحركة النسوية ومن صانعي الثقافة، وانخرطت في موجة الكفاح ضد كل الأفكار التي تعامل المرأة كبضاعة أو لعبة، ولجمالها كوسيلة لإشباع شهوات الجسد لا الروح، وأيضاً من أجل السماح لها بتنظيم النسل وبحق أبنائها بالرعاية في رياض الأطفال.

وكما لم ير كثير من النقاد دوما في ما سُمّي بثورة الشغب النسوية حينها، ثقافة فاعلة إذا لم تُشبع بوعي سياسي، فشلت أغاني هانا، التي حاولت تقليد أناشيد الكفاح في الستينيات، من التعبير عن رفض العبودية والعزلة والفردية المشبعة بالأنانية، الاّ بعد أن دخلها الغضب، واستبدل فيها الكمان والهارمونيكا، بالقيثارات والطبول والأصوات الغاضبة.

لقد أدركت هانا منذ البداية، بأن حشر السياسة كمحتوى مباشر بالفن، أمر يخّل بشرط التوازن ويحّول النتاج الإبداعي لشعارات مملة ويفقده الغموض اللازم لخلق الدهشة، في ذات الوقت الذي يصبح فيه الجمال بلا موقف سياسي باهتاً ويفتقر للحياة. ولهذا أبقت على بعض الغموض في التعبير الجمالي عن حقوق المرأة، وظلت تعّبر عن القضية برمزية فريدة، حتى عندما كانت تصّر على أن أعمالها ليست سوى نشاطات سياسية بحتة.

وفي العقد الأول من القرن الحالي، حين عادت كاثلين هانا للتأليف الموسيقي، بعد تقاعد مرضي، توقعت أن يكون المشهد الثقافي والسياسي مختلفاً، وإنه لم تعّد هناك حاجة للدفاع عن الحرية أو الصراخ بوجه التمييز الذي يمارسه الجهلة ضد النساء، وأن النضال من أجل المساواة بين المرأة والرجل قد قطع خطوات مهمة، لاسيما بعد أن باتت الفتيات يمثلن الأكثرية في الجامعات وفي قيادات الأحزاب السياسية، وصار نصف المؤلفين الأكثر شهرة ومبيعاً، من النساء. الاّ أنها سرعان ما أصيبت بخيبة أمل، حين وجدت العنف والاستغلال متنوع الأشكال ضد المرأة مستمراً، وحين أرتها الإحصائيات تزايداً خطيراً في هذه الجريمة، وفرقاً لا يقل عن 10 في المائة في أحسن الأحوال بين أجور المرأة وأجور الرجل عن نفس الجهد، فعادت للنضال ضد رأس المال، وانتجت المزيد من الموسيقى "الماركسية – النسوية"، لصناعة الفرح وتعزيز اليقين بغدٍ آت لا ريب فيه.