وزارة التخطيط تنبهت في الفترة الأخيرة إلى استنتاج مؤداه أن الاقتصاد العراقي ما زال ريعيا وذا نزعة استهلاكية، ليس لوحدها، فالبرامج الحكومية لا تخلوا من هذه التوجهات ولكن من الناحية النظرية فقط. والطابع الاستهلاكي في الاقتصاد العراقي موضوع البحث حفز الباحثين والمحللين إلى الالتفات إلى دراسة واقع الإنفاق الاستهلاكي الحكومي أو الخاص وإعادة النظر بمضمون الخطط التنموية الخمسية والموازنات السنوية والاتجاه إلى قطاع الإنتاج والانسلاخ من ذلك الطابع الضار بالاقتصاد والمجتمع في نفس الوقت.
المفارقة فيما تقدم تتجلى في نقطتين الأولى أنها وضعت القطاع الخاص والقطاع الحكومي على قدم المساواة في الإنفاق الاستهلاكي والثانية أنها دعت إلى التخلي عن الخطة الخمسية التي تعتبر من صلب مهامها، فهل كان المقصود نفي دورها في رسم الخطة ام أنها كانت ملزمة بالقبول بخطة صدرت شهادة وفاتها منذ صدورها؟ هذا من جهة ومن جهة أخرى هل يمكن النظر إلى الإنفاق الحكومي الاستهلاكي والإنفاق الخاص في كفتين متساويتين من حيث التأثير؟ فإذا كان المقصود بالإنفاق الاستهلاكي الخاص هو استهلاك الأفراد فهذا أمر طبيعي في مجتمع ترتفع فيه نسبة البطالة إلى أرقام قياسية قد تصل في كل عناوينها إلى ما يقارب 50 بالمائة ومستويات أسعار عالية في المواد المعيشية والأدوية والعقارات باهظة القيم وقيمة منخفضة للدينار العراقي مقابل الدولار الذي زادت قيمته في السوق الموازي بنسبة 50 في المائة عن السعر الرسمي ليذهب الفارق إلى خزائن الطبقة المالية المهيمنة، وقطاعات إنتاجية مشلولة وخاصة القطاع الصناعي والقطاع الزراعي وهذا الأخير لم يزدد سوى بشهقة عميقة من الأوكسجين بما سميت بالمبادرة الزراعية التي أعدتها حكومة سابقة التي عفى عليها الزمن والتي تحولت من طابع المبادرة ذات الدعم الحكومي إلى مشروع للاستثمار وضع في البراد.
ولمزيد من التذكير لما يعنيها الأمر من الدوائر الحكومية المسؤولة فإن المستهلك العراقي الذي يدور حول خط الفقر يواجه خطر الكثير من المواد المستوردة التي يعج بها السوق العراقي والتي تدخل في غذائه، نتيجة لانتهاء الصلاحية، او طبيعة العلب المهدرجة والتي تشير الأبحاث انها تتفاعل مع المواد الغذائية المعدة للاستهلاك النهائي أو نصف المصنعة والتي تدخل في عمليات الطبخ لإعدادها وجبة غذائية او المشروبات الغازية كلها تعرض المستهلك إلى حالات من التسمم، او المسرطنة التي قد تؤدي إلى الوفاة وفوق ذلك فقد تم اكتشاف مساعي بعض التجار وبدافع الجشع بإجراء تغييرات في العلامات التجارية او تحريف تاريخ الصلاحية، وقد نشرت في وسائل الإعلام العديد من هذه المحاولات ولم يعرف على وجه اليقين نتائج التحقيقات أو دور القضاء في معاقبة هؤلاء التجار باعتبار أعمالهم تندرج ضمن الجرائم التي يصفها القانون الشروع في القتل.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار ما ورد في المادة 11 من قانون حماية المستهلك المتعلق بخضوع السلع والخدمات التي يتعامل بها المجهز او المسوق أو المعلن لمعايير الجودة، فان الجهة الوحيدة القادرة على تطبيق هذه المعايير هو الجهاز المركزي للتقييس والسيطرة النوعية، بحكم توافر الخبرات والأجهزة التي تستطيع التكنولوجيا، اكتشاف التزوير في العلامات الجارية أو صلاحية المادة المستوردة للاستهلاك البشري، إلا أن هذا الجهاز يواجه جملة من التحديات تتمثل في كثرة المنافذ الحدودية التي تدخل عن طريقها البضائع المستوردة وخاصة القطاع الخاص، فعلى حين كانت هناك ثلاثة منافذ ازدادت الآن إلى 23 منفذا حدوديا بين بري وبحري وجوي فضلا عن تعاظم التبادل التجاري بين الدول المجاورة، مما لا يستطيع هذ الجهاز بإمكانياته المحدودة من تغطية هذا التوسع
كل ذلك يتطلب من الدولة معالجة الطابع الاستهلاكي في البلاد بجانبيه الاقتصادي والاجتماعي عبر السيطرة على السلع المستوردة والمنتجة محليا وتنشيط الرقابة التجارية في السوق وتضييق الخناق على المتجاوزين على قوانين الدولة بواسطة القضاء.