في خضم حماسه لفرض تعديلاتِ تُلغي ما نصّ عليه قانون الأحوال الشخصية من حقوق للنساء، راح مجلس النواب يحتفل بالنصر، فتبادل أغلب أعضائه الشتائم والاتهامات وحتى اللكمات، تماماً كما اعتادوا أن يفعلوا في الأفراح والملمات، فيما رأى العراقيون، وفي الصميم منهم اليسار، ما حدث أمراً متسقاً مع أخلاقيات نظام رأسمالي تابع، يُعلي من شأن العمل المأجور، الشكل "المتطور" للعبودية، ولا يُنظر فيه للمرأة ككائن بشري، بل كمصدر رخيص أو مجاني للمتعة والخدمة.
كائن يُحبس في البيوت ولا يُسحب لسوق العمل إلا عند الضرورة قبل أن يعاد لمحبسه عندما تنتهي الحاجة إليه. كائن لا يخضع لهذه العبودية، إلاّ إذا ما غُيّب وعيه وإرتضى بما هو متاح، ولا يُروض وتُقتل طموحاته إلاّ إذا مُنع من المشاركة في أي عمل أو تنظيم يدافع عن حريته وكرامته. كائن يقرر له ولي الأمر الذكر، حتى وإن كان سفيهاً، حقه في التعليم والرعاية الصحية والعمل والأجر المتساوي والاستقلال المالي وعمر الزواج واختيار شريك الحياة أو الانفصال عنه وتحديد معدلات الإنجاب وحضانة المولود وساعات رضاعته والتمتع بما له من ميراث. كائن يمكن لولي الأمر، تعريضه للعنف وحتى القتل، بما يتناسب واعتبارات لا جدال فيها، ليس لخطأ إلاّ لإنه ولد امرأة!
وكان من البداهة بالمقابل، أن يصارع اليسار أخلاقيات البرجوازية المتعفنة هذه، وأن يتبنى، وتأسيساً على قيمه الإنسانية الأصيلة، الدفاع عن نصف المجتمع المستضعف، وأن يسعى لتمكينه من المشاركة في جميع مجالات العمل والثقافة على قدم المساواة مع الرجال، واتخاذ كل التدابير التي تحارب التمييز وتنّمي الوعي العام بمخاطره وتساهم في الحد منه واجتثاثه.
وكما منح اليسار قضية المرأة مضموناً طبقياً، حذر بقوة من سياسة تطبيع المجتمع على قبول التمييز ضدها، معتبراً ذلك أكبر عائق أمام تمتعها بحقوقها وأمام تقدم المجتمع بأسره. وكشف عن أن نجاح مشاركتها السياسية مرهون بالوعي وبالقدرة على رفض ومقاومة الصور النمطية لدورها، مؤكداً على أن وجود المزيد من النساء في أروقة السلطة ليس كافياً لتغيير الواقع، فالسلطات نفسها مخصصة لاستغلال القوى المستضعفة لصالح الطفيليين والبرجوازية البيروقراطية وبقايا الإقطاع الذي استبدل شكله وحافظ على جوهره البشع.
وفيما أثبتت تجربة تصويتات النساء في مجلس النواب مؤخراً هذه الحقائق، أكدت الأبحاث على أن الإستسلام لسيادة الذكورية طيلة قرون، يترك آثاراً سلبية هائلة على ثقة النساء بقدراتهن وبدورهن في المجتمع، حيث ذكرت عالمة الأعصاب كورديليا في دراسة هامة، بأنها طلبت يوماً من طلبتها أن يذكروا جنسهم بورقة الإجابة، فوجدت بأن الطلب لوحده كان كافياً لتقليل قدرة الفتيات على أداء الاختبار بنسبة 17 في المائة بالمقارنة مع من لم يطلب منهن ذلك. وفي كتاب هام، وثّقت عالمة الاجتماع كارولين كريدو، الإحصائيات التي تؤكد على أن تصميم المعدات اعتماداً على جسم الرجل، كان سبباً في زيادة الإصابات بالجروح بين النساء بنسبة 49 في المائة عنها في الرجال وتعرضهن للموت بنسبة 17 في المائة أكثر منهم.
ولذا يضع اليسار توعية المرأة بحقوقها وزجها في الكفاح الوطني والاجتماعي وتصدي شغيلة اليد والفكر، نساءً ورجالاً، لمساعي تأبيد التمييز والظلم، شرطاً من شروط تحقيق التغيير الشامل، وإقامة الدولة المدنية الديمقراطية التي تضمن العدالة الاجتماعية، لاسيما بعد أن صار واضحاً بأن هيمنة نظام المحاصصة الرأسمالي المشوه على بلادنا، لا تؤدي لتفاقم المشاكل الاجتماعية والاقتصادية فحسب بل وتشكل تهديداً لأسس الحياة المتحضرة فيها وعائقاً أمام تقدمها.