اخر الاخبار

إلى جانب استعادته لمكانته، شهد العقدان الماضيان حوارات جادة ومكثفة حول آفاق تطور اليسار ودور الطبقة العاملة في مساره النضالي. وشددت أطياف منه على أن نقطة الإنطلاق لإعادة إحياء المسيرة تكمن ليس في جلد الذات والشعور بهزيمة التجربة الأولى، بل في الاعتراف بأن ما حدث في نهاية القرن العشرين، كان حالة من الجمود الذي أصاب الاقتصاديات على النمط السوفيتي وشكلاً من الإرهاق الذي تعرضت له حركة الفكر في الدول الرأسمالية المتطورة، خاصة إذا ما إتسم هذا الإعتراف بنفس النزاهة التي عُرفت بها حركة التقدم.

ويعرب مفكرون عن اعتقادهم بأن أطيافاً يسارية فاعلة، باتت تتخذ اليوم أشكالأ من الممارسة السياسية، مختلفة عما كانت عليه قبل انهيار المعسكر الشرقي. فعلى صعيد القاعدة الاجتماعية، راحت تلك الأطياف تتحدث عن الأغلبية الشعبية، بدل التركيز على الطبقة العاملة وحدها، وتعطي لدور المرأة وحماية البيئة والقوميات الصغيرة ونضالها لتأكيد وجودها وانتزاع حقوقها، مكانة بارزة في هذه الأغلبية.

وفيما كان التنظيم الجماعي القوي والتضامن والانضباط، ركائز هامة للعمال كي يحشدوا قواهم ضد رأس المال ووسائل الإعلام والشرطة، حققت حركات يسارية جديدة كحزب بوديموس وفرنسا الأبية وسومار وغيرها، نجاحات هامة، رغم افتقادها لجذور قوية في المجتمع وعدم وجود ملامح تنظيمية واضحة لها، يمكن بها التمييز بين أعضاء الحركة عن غيرهم، إلى الحد الذي انضم فيه يساريون أمريكان وبريطانيون مؤقتاً للحزب الديمقراطي لدعم توجه ساندرز ولحزب العمال لدعم كوربين قبل أن يعودوا لحزبهم الأصلي. 

وفي الوقت الذي تستمر فيه هذه الأطياف بممارسة نقد حاد للديمقراطية البرجوازية، باعتباره عنصراً أساسياً في النظرية السياسية الماركسية، وتواصل فضح العجز الشديد الذي تميزت به ديمقراطية الليبراليين الجدد، تدعو لبناء مجتمع تتوفر فيه الأسس المادية للحرية والعدالة. وربما صارت بعض تلك الأطياف أقل حساسية تجاه الديمقراطية البرجوازية منها تجاه الدكتاتورية البرجوازية، فيما لا تتوقف أطياف أخرى طويلاً عند حقوق الأقلية، وتقدم  المشاركة الجماهيرية على الرأي التعددي، معتبرة الاشتراكية، ديمقراطية جذرية تعتمد على حكم الأغلبية.

وإذا كان لليسار في القرن العشرين برنامج استراتيجي، يهدف لبناء المجتمع الاشتراكي ومن ثم الشيوعي، فإن عدداً من أطيافه يرون اليوم بأن الاشتراكية، تطرح تساؤلات كبيرة ينبغي الإجابة عليها نظرياً وفي السياسة العملية، دون أن يتخلى هؤلاء عن تحديهم للوحش النيوليبرالي، أو أن يعارضوا استراتيجية الانتقال إلى الاشتراكية، عبر مسارات متنوعة، تفضي لمجتمع تعاوني، تزدهر فيه الحرية ويضمن حماية البيئة والعدل في توزيع الثروات.

كما تتميز هذه الأطياف اليسارية بأساليب كفاحية لا تقتصر على التقاليد الانتخابية والمظاهرات الحاشدة فقط، بل تتعداها لتشمل الحراكات الاحتجاجية في الساحات والميادين، بغية تحقيق أهداف معينة، كمقاطعة المستغلين ومصاصي دماء المستهلكين، والاحتجاج على الاستثمار في الوقود الأحفوري، ومناهضة الفصل العنصري ورسملة التعليم وخصخصة الرعاية الصحية وغيرها. وكان أن أثمرت هذه الحراكات قادة ورموزاً انتخابية هامة لليسار.

وأفضى تدهور دولة الرفاه الاجتماعي، إثر انتصار العولمة الليبرالية الجديدة وقيام أحزاب الديمقراطية الاجتماعية بتكييف أوضاعها معها كما حدث في السويد وألمانيا وفرنسا وغيرها، إلى ضياع فرصة هذه الأحزاب في استعادة مكانتها التاريخية، ودفع بأطياف يسارية للمطالبة بإرث الديمقراطية الاجتماعية، إما  بعيداً عن فكرة إلغاء الرأسمالية وإقامة المجتمع اللاطبقي، أو بوضع برامج لإصلاحات هيكلية جوهرية في الديمقراطية الاجتماعية، بأهدافها التعاونية ذات الأفق الاشتراكي، مع بقائها تنبض برحيق ماركسي معاصر، وتتتلمذ على تقاليد الحركة الشيوعية والثورية التي سادت في القرن العشرين.