ليس عبثا أن يحتضن قلب بغداد لافتة شاهقة طولها خمسون مترا وعرضها ثمانية أمتار وترتفع عن الأرض خمسة أمتار، معلقة في الهواء ومتربعة على جسر مرمري، يسمح بمرور السابلة، بينما تمتد من خلفها حديقة غناء..
إنها جدارية نصب الحرية للفنان الخالد جواد سليم، التي تعد واحدة من أهم الجداريات في العالم.. وقد تشكلت من منحوتات جمعت بين الفنون: الرافديني والإسلامي والحديث، بأشكال جمالية أشرت فتحا فريدا في تاريخ الفن التشكيلي العراقي .
قصة النصب بدأت بتكليف من الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم للمهندس المعماري رفعت الجادرجي، بتخليد ثورة 14 تموز بنصب تذكاري أقيم بعد عامين من قيامها، إلى جانب تصميم نصب للجندي المجهول ..
كان الزمن ضاغطا ومشحونا بالتوتر وقد طُلب منه انجاز النصب في مدة قصيرة، كي يتم افتتاحه في الذكرى الثانية من عمر الثورة. وطلب الجادرجي من الفنان جواد سليم القادم من أوروبا محملا بأفكار الحداثة والأصالة، تصميم النصب وتنفيذه.
وفعلا قدم جواد مخطط النصب بعد ثلاثة أيام فقط، واستندت فكرته على منحوتات تمثل ثلاث مراحل: قبل الثورة، والثورة، وبعد الثورة مع بدء مرحلة الازدهار.
تفصيلات النصب ومراحل انجازه خارج العراق ونصبه بساحة التحرير، صُوّرت أخيرا بفيلم وثائقي عنوانه " سمفونية البرونز" للمخرجة الفنانة إيمان خضير، ومن إنتاج أمانة بغداد، وقد عرض قبل أيام بمناسبة يوم بغداد.
الفيلم هو الأول من نوعه من حيث حرفية التصوير وتنفيذ الموسيقى وأداء الممثلين ، وقد عكس معاناة الفنان في كيفية التنفيذ في لقطات وثائقية، صُورت في روما وباريس وبغداد بعين سينمائية دَرِبة، وبتذوق جمالي حمل أبعادا فلسفية قيمة، تحدث عنها نقاد معروفون.
لم تكتف المخرجة بالجانب التوثيقي، إنما اعتمدت خطا دراميا حاذقا، قصت فيه بصريا أيام جواد العصيبة تحت ضغط عامل الزمن والسعي للوصول إلى صيغة تتفق مع رؤية الزعيم وأمانة بغداد، موضحة مدى تدخل الفنان الراحل خالد الرحال في العمل وإعاقته، بتقديمه اقتراحا للزعيم عبد الكريم بفرض وضع صورته في أعلى النصب.
ويكشف الفيلم للمرة الأولى تدهور حالة جواد الصحية وخضوعه للعلاج في مصحة للأمراض النفسية، لتوهمه أن هناك من يتآمر عليه ويثنيه عن الإنجاز.. وقد رقد فيها فترة من الزمن حتى غدت عملية التنفيذ مهددة، لولا تدخل المهندس الجادرجي الذي زار جواد وأقنع إدارة المستشفى بخروجه منها "على مسؤوليته" وأقنع جواد بانتفاء الحاجة لوضع صورة الزعيم على النصب.
سافر جواد بعدها إلى فلورنسا الإيطالية، حيث تم صب التماثيل وشحنها بصناديق، وعاد للعراق. وعرض الفيلم لقطة فوتوغرافية له في ساحة التحرير قرب الصناديق الخشبية المفتوحة، وكانت تلك الصورة الأخيرة له، إذ تعرض بعدها لأزمة قلبية ونقل للمستشفى الجمهوري، حيث فارق الحياة.
هذا الفيلم بيّن ايضا حاجتنا لتوثيق منجزات كبار فنانينا ومثقفينا بأشرطة تسجيلية تليق بهم.