لم يتعرض موقف سياسي للتشويه العمد كما تعرض موقف اليساريين من القضية الفلسطينية، حيث اصطف الأعدقاء والخصوم في جوقة واحدة، أطلقت عواءً متواصلاً، زاعمة رضى اليسار عن قرار التقسيم، ومدّعية بأن كل انتفاضاته من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية محض فتنة يهودية، وأن لهذه الطائفة الدينية تنتمي خالات وعمّات قادة اليسار في العالم!
إلّا أن هذا الهراء سرعان ما ارتد على أصحابه وفضح خطاياهم، فقد سجل التاريخ لكارل ماركس بأنه أول من وصف "المسألة اليهودية"، بالتعبير الأيديولوجي عن مصالح طبقة تجارية في ما قبل الرأسمالية، وأن مشكلة اليهود ليست قضية دينية بل اجتماعية، نجمت عن قيام البرجوازية بعزل اليهودي وتصميم حياته قهراً كتاجر ومرابٍ، مؤكداً على أن هذه النمطية ستزول مع إلغاء المنازعة بين الوجود الفردي والوجود الاجتماعي وبتغير علاقات الإنتاج، فلا خلاص لليهودي إلا ضمن التحرر الاجتماعي الإنساني الشامل، أي في مجتمع خال من السيطرة البورجوازية، داعياً اليهود إلى الانغماس في مجتمعاتهم كمواطنين والنضال مع الباقين للخلاص من الرأسمالية.
وبعد إن ولدت الصهيونية كحركة عنصرية من رحم النظام الرأسمالي وارتبطت به ارتباطا مصيرياً، أكد لينين على أن ما يسمى بالقومية اليهودية، ليست سوى إيديولوجيا بربرية تحاول إعادة التاريخ إلى الوراء. ورفضَ كل الاشكال الخاصة بالتنظيم اليهودي، كالتعامل مع "حزب الصهاينة الاشتراكيين" أو ضم اتحاد العمال اليهود (البوند) لصفوف الحزب الاشتراكي الديمقراطي، معتبراً إياه اتحاداً للحاخامات وليس اتحاداً للعمال.
كما شجب لينين محاولات قيام دولة يهودية مستقلة، فكتب يقول بأن الدولة اليهودية التي يزعمون أنها ستكون قاعدة انطلاق الثورة لن تكون في الواقع سوى دولة في خدمة البرجوازية الأوروبية بمفردها أو بمساعدة الزعماء العالميين من الصهاينة، الذين سيلعبون دور خادم لرأس المال الأوروبي. كما رفض المؤتمر الرابع للأممية الشيوعية اعتبار اليهود أمة، أو الإعتراف بفكرة استقلالهم الذاتي والثقافي.
ورغم ما اتسم به موقف الإتحاد السوفيتي من التقسيم بشيء من البراغماتية، جراء الخشية على المعسكر الاشتراكي حديث الولادة، ولتقليل مخاطر الوحشية الأمريكية، التي انفردت حينها بامتلاك السلاح النووي وباستخدامه ضد اليابان، فإن قرار التقسيم كان يشترط قيام دولتين، كخطوة على طريق توحيدهما في دولة ديمقراطية واحدة لكل سكان فلسطين التاريخية، وهو هدف أجهضه الصهاينة وحلفاؤهم من حكام العرب، فيما تواصل دعم السوفيت للكفاح العربي والفلسطيني وبسخاء هائل، في كل مراحله ومعاركه المختلفة.
لقد خط التاريخ للشيوعيين العراقيين بمداد من الفخر موقفهم الثوري من القضية الفلسطينية، والذي لم يقتصر على تقديم كل الدعم للشعب الشقيق بما في ذلك المشاركة في نضالاته السلمية والعنفية، حد اختلاط دمائهم بدماء أشقائهم في سوح المعارك، بل تعداه لمكافحة الصهيونية في البلاد، وتأسيس منظمة جماهيرية – سياسية (عصبة مكافحة الصهيونية) لمواجهتها، باعتبارها مشروعاً إمبريالياً للهيمنة، معاديا لتحرر وطننا وتنميته، مما يجعل من النضال لإسقاطه مساهمة في الصراع الطبقي ضد الإمبريالية، وطنياً ودولياً.
وحين تبنى الفلسطينيون حل الدولتين، اعتبره الشيوعيون خطوة مرحلية، تضمن حق تقرير المصير وتُجهض بها مساعي اغتصاب كامل الأرض، دون التخلي عن تحشيد كل قوى الخير في مقاومة المشروع الصهيوني والهيمنة الإمبريالية، بما في ذلك قوى اليسار في المجتمع الإسرائيلي، الذي لن يكون خارج قوانين الصراع الطبقي، ولخلق جسر يربط بين العمال والفقراء الفلسطينيين ونظرائهم الإسرائيليين، من أجل إسقاط الدولة الصهيونية الرأسمالية، دون أن تتسرب لصفوفهم وصفوف كل اليسار، أشواك اليأس بالقدرة على تحقيق هذا الحلم.