مما يثير القلق لدى المحللين والمتابعين للشأن الاقتصادي، تفاقم ظاهرة غسيل الأموال وتهريبها وهما الشكل الأعلى للفساد في البلاد، مما أديا إلى تدهور في عملية التنمية الاقتصادية وتعميق الأزمات على النطاقين الاقتصادي والاجتماعي. إن استمرار هاتين الظاهرتين وتعقد مسارهما لا ينبغي النظر إليها بعدم الاكتراث الأمر الذي يؤدي إلى مزيد من الشكوك في السياسات الحكومية مما يقتضي التعجيل باتخاذ إجراءات حاسمة ليس في معاقبة مرتكبيها فحسب وإنما في الوقاية لمنع تكرارها.
وما كان لهذه الظاهرة المزدوجة أن تأخذ هذه الأبعاد المقلقة لولا وجود حزمة من الأسباب والعوامل التي ترابطت ببعضها وانتجت سلسلة من الآثار ومن بينها:
1.تخلف كبير في التنظيم الإداري والاقتصادي لعمليات الاستثمار المحلي والاجنبي.
2.تراجع مريب في القيم الاجتماعية والأخلاقية التي اعتاد عليها مجتمعنا في أجيال سابقة، لدى الكثير من رجال الاعمال والمصارف ما قادها إلى ارتكاب هذه الجرام المخلة بالشرف العراقي.
3.ضعف النظام المصرفي في تشديد الرقابة على العمليات المصرفية وخاصة في عمليات التحويل المالي الإلكتروني بين المصارف المحلية والأجنبية أدت إلى حصول جرائم تهريب العملة وغسيلها قبل ان تتجه حاليا إلى أتمتة العمليات المصرفية وهذه هي أيضا بحاجة إلى رقابة.
4.جرائم غسيل الأموال تجري في ظل بيئة تتسم بالتشجيع على ارتكاب تلك الجرائم وفي ذات الوقت عدم اتخاذ العقوبات الرادعة ضد مرتكبيها، بل أن هؤلاء ينعمون بحصانة قوى سياسية منتفعة واجتهادات في تفسير النصوص القانونية الرادعة.
وتجد هذه الجرائم ومظاهرها تجسيدا لها في العديد من الممارسات التي سجلتها بعض المصارف ومنها مصرفا الرافدين والرشيد والبنك التجاري وتم إبلاغ وزارة المالية عن خروج أموال كبيرة من حسابات مصرفية لعملائهم لحساب شركات مجهولة الأنشطة، وفي ذات الوقت دخول مئات الملايين من الدنانير إلى حساب عملاء آخرين في بغداد والبصرة وأربيل وإقليم كردستان مما تدعو للاستغراب عن طبيعة هذه التحويلات والودائع. ومن جهة أخرى رصدت وزارة الداخلية أن بعض العائلات في بغداد الجديدة والمنصور ومناطق أخرى ظهرت عليهم مظاهر الثراء السريع من خلال السيارات الفارهة والفلل والقصور بشكل مثير خلال الأشهر الماضية، وهذه الأمثلة لم تأت مصادفة فملفات الحكومة تضج بهذه الجرائم. وفق هذه وتلك من الأمثلة فان غسيل الأموال كما هو معروف يعني (تحول الأموال غير المشروعة إلى أموال مشروعة) تتم عبر قنوات اقتصادية كالاستثمارات والعقارات والمولات والمشاريع الخاصة في مجال التعليم والصحة والنقل السياحي.. الخ.
من باب الاعتراف بثقل جرائم غسيل الأموال كأمر واقع فقد انعقد في بغداد منتدى مكافحة الفساد للفترة من 10—12 من شهر أيلول الماضي برعاية رئيس الوزراء وقد شارك في هذا المنتدى أكثر من 300 شخص من 29 دولة وجرى تنظيمه بالتعاون مع المنظمة العربية للتنمية الإدارية ومنظمة الشفافية الدولية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وقد تمحور موضوع المنتدى حول أن (النزاهة عنصر أساس في عصر التعقيد والفرص)، وتوصل إلى العديد من التوصيات كان أبرزها إنشاء مرصد عربي للنزاهة والشفافية كمنظمة إقليمية لرصد جهود مكافحة الفساد وتقييم فعالية السياسات فضلا التركيز على اعتماد الحوكمة الإلكتروني في معظم العمليات الاقتصادية والمالية والمصرفية.
وحيث أن مكافحة غسيل الأموال تعتمد على علاقات مالية ومصرفية محلية ودولية تسمح بتتبع الأموال بهدوء مقترن بجدية تامة تعطي الطمأنينة للاستثمارات القائمة على أسس وقواعد قانونية. وبناء على ما تقدم فإن الدولة مطالبة بالأخذ بالاعتبار كل الآراء والمواقف المتخذة حكوميا وشعبيا فضلا عن التجربة العالمية في مجال مكافحة جريمة غسيل الأموال وتهريبها وبالخصوص التوصيات التي اتخذتها المؤتمرات الدولية التي انعقدت في العراق وآخرها منتدى مكافحة الفساد المنعقد في بغداد في شهر أيلول الماضي، والتنسيق التام بين الجهات الحكومية الممثلة في مكتب غسيل الأموال وإدخال ديوان الرقابة المالية والنزاهة، مع تحاشي تضخيم الأجهزة الأمنية والرقابة في هذه العملية كي لا يكون ضررها أكثر من نفعها.